موقع الشهيد عز الدين قلق

سيمفونية عزالدين الناقصة

لقاء لمجلة الحوادث مع الياس صنبر وفاروق مردم | كانت فلسطين مزروعة بالبشر والقوى والخصب. كانت وطنا. ولم يكتشف عز الدين قلق هذه النتيجة متأخراً في فرنسا، بل كانت قناعته ، التي تشردت معه منذ يوم مولده في حيفا حتى يوم مصرعه في باريس في الثالث من آب/ أغسطس 1978.

إذا كانت فلسطين صحراء فإن العرب هم الذين زرعوها… وإذن لم تكن صحراء!

كانت فلسطين مزروعة بالبشر والقوى والخصب. كانت وطنا ً.

ولم يكتشف عزالدين قلق هذه النتيجة متأخراً في  فرنسا، بل كانت قناعته، التي تشردت معه منذ يوم مولده في حيفا (1936) حتى يوم مصرعه في باريس في الثالث من آب/ أغسطس 1978 .

غير أنّ عزالدين أحسّ أنه بحاجة إلى شهود يصدقون قناعته، ويؤكد للعالم أجمع أن فلسطين لم تكن صحراء بل كانت وطنا مزروعا بالبشر والقرى والخصب.

وفي فرنسا حيث حصل عزالدين على دكتوراة العلوم بامتياز، وحيث عاش قرابة ربع قرن… عثر على شهوده، لكنه قضى قبل أن يصغي إلى أصواتهم تدلي بالشهادة التي بين أيدينا.

وبين مصرع عزالدين وهذه الشهادة قصة متعددة الأصوات:

الياس صنبر ــ كان عزالدين يجمـع بطاقـات بريـد فلسطين القديمة مـن الباعة على ضفاف السين أو قريبا من “اسباس كاردان،” لم يكن وقته يسمح له بالبحث الطويل عن كمية كبيرة مــــن هذه البطاقات، أو عن النوعية الممتازة منها.

فاروق مردم ــ لم يكن يستطيع الإختيار. كلـّما وجـد لديه وقت ينزل. لقد جـمع عـددا مـن بطاقات البريـد عـن فلسطيـن. وكنـّا نتبـادل هذه البطاقات أحـيانا. خـاصة حـين يجد بطاقة نادرة تهمنا ولا تهمه سواء عن الشام أو حلب أو غيرها من المدن العربية المشرقية.

الحوادث: كانت لعزالدين اهتمامات ثقافية؟
فاروق مردم: كان يعمل علـــــــى جبهات ثقافية وفنية مختلفة: تجــمـيـع بطاقـات البريـد، الملصقات، رسوم قديمة عن فلسطين ويهيئ المعارض والكتب .

الحوادث: وكان ذلك بدافع شخصي؟
فاروق مردم: طبعا كان مبدعا. وكـان وحيـدا، وكانت مشروعاته الثـقـافـيـة تنطلق مـن اهتمامه الشخصي.

الياس صنبر: كان يهتم أيضا بموضوع السينما، وصاحب عددا من الرسامين الكبار، وهذا ما ساعده على اشتراك عدد من هؤلاء في المعرض العالمي ،الذي أقيم في بيروت.

فاروق مردم: أذكر أن بعض الشباب المثقف أعدّ فيلما قصيرا عن حياته . وقد عرض هذا الفيلم في الـ “ميتواليتيه” كان المثقفون في فرنسا يعتبرونه صديقا.

الحوادث: والكتاب الذي بين أيدينا هل هذا ما كان يريده عزالدين؟
فاروق مردم: كان عزالدين يطمح لأن ينشر كتابا أفضل من هذا الكتاب. كان يريده كتابا يضم مجموعة كاملة من بطاقات البريد المصورة عن فلسطين، ومع ذلك يمكن القول أن هذه المجموعة تمثل الفترة الذهبية لبطاقات البريد في العالم ، فمعظمها من أوائل هذا القرن.

الحوادث: هل حدّثـك عن مشروعه هذا قبل مصرعه؟
فاروق مردم: طبعا، قال لي أنه يريد نشر هذه البطاقات البريدية مع عـدد مـن نصوص الرحالة… لهدف بسيط جدا هو أن فلسطين بلد مسكون ومزروع، وفيـــه كل مقومات الوطن، وأنه لم يكـن صحراء، خلافا ً لما تزعم الدعاية الصهيونية. وكان عز الدين قد طلب من عدد من أصدقائه أن يجدوا له عددا من النصوص. لكنه بالتأكيد لم يكن يريد طبع كتابه بهذا الشكل. كان يقول حـيـن تبلغ عدد بطاقاته الألف فإنه سيختار منها 200 بطاقة وينشرها.

الحوادث: ولكن كيف انتقل المشروع إلى أيديكم؟
فاروق مردم: للأسف قـُتل عزالدين قبل أن يحقق مشروعه، كانت البطاقات بين أغراض غرفته الصغيرة. كان يعيش في غرفة متواضعة جدا، مملوءة بالكتب. ومعظم كتبه فنية. كان هنالك أيضا عدد من اللوحات القديمة المنسوخة، بينها لوحات لماتيس وبيكاسو، وعدد كبير من الملصقات… بالإضافة إلى بطاقات البريد.

يومها قالت لي شقيقته: انظر ماذا بإمكانك أن تفعل بهذه البطاقات. وهكذا اتصلت بالصديق ايلي صنبر، وبدأنا العمل.

الحوادث: وكيف عملتم؟
الياس صنبر: لم نختر أحـلى البطاقات بالضرورة، لكننا اخترنا البطاقات، التي تعرض القسم الأكبر من مناطق فلسطين. وسواء أكانت الصورة مـن الجنوب أم من الشمال فإنك ترى أن هذه المناطق مسكونة وآهلة بالسكان .

فاروق مردم: وهذا يشمل أيضا المناطق، التي قال عنها بعض الرحالة أنها فقيرة وقاحلة كمناطق البحـر الميـت، والواقع أنّ الصورة تـُكـذب هذه الادعاءات، كما تكذبها أيضا نصوص بعض الرحالة الآخرين، الذين ذكروا بعض الحقائق عن البشر الذين كانوا يسكنون هناك وعن الزراعة والري والحرف.

الحوادث: ماذا أضفتم إلى عمل عزالدين؟
الياس صنبر: حققنا جزءا مما كان يطمح عزالدين إلى تحقيقه. للأسف لم يكتب عزالدين كلمة واحدة حول مشروعه. وهذا ما جعل عملنا حذرا ودقيقا.

فاروق مردم: لم نـُدخل بطاقة واحدة مـن خـارج مجموعته، لا مــن مجموعتنا ولا مــن مجموعة أصدقائنا، الذين يملكون عددا مـــن البطاقات الجيدة عن فلسطين. الكتاب في النهاية هو كتاب عزالدين وليس كتابنا. كل ما يمكن قوله أنه كتاب ناقص لأن صاحبه مات قبل إنهائه. وقد فضـّلنا نشره كما هو دون إضافة أي شيء، ودون تعليق على البطاقات .

الحوادث: وماذا كان دور زميلتكم الفرنسية جنفييف سيلييه؟
الياس صنبر: احتراما منا لما أراده عز الدين، اتصلنا بها وطلبنا منها النصوص، التي سبق أن طلبها عزالدين بنفسه منها. كل مافعلته أنها قدّمت بعض النصوص.

الحوادث: هذا يعني أن عزالدين كان يفكر بجمع نصوص تدعم الصور.
فاروق مردم: نعم. هذا ماكان يريده وهذا ما فعلناه، لقد وضعنا شهادات الرحالة الفرنسيين إلى جانب الصور. فضلنا أن يكونوا رحالة فرنسيين لأن عز الدين كان يعيش في فرنسا ، ولأنه كما نظن كان يريد الكتاب بالفرنسية مع ملحقين بالعربية والانكليزية.

الياس صنبر: طبعا فضلنا البقاء في إطار فكرة النصوص لأنها أسهل الحلول وأقربها إلى ما أراد عز.

الحوادث: وفي أي اتجاه اخترتم النصوص؟
فاروق مردم: اخترنا ما يؤكد أن فلسطين كانت بلدا مأهولا بالناس ومزروعا. اخترنا ما يؤكد أنها كـانت وطنا. طبعا كـان هنالك رحـّالة كتبوا بعقلية استعمارية، غير أنّ أحدا ً مـنهم لـم يستطع إنكار الحقائق. ثم لابد مـــن الأخذ بعين الاعتبار أن فكرة “فلسطين الصحراء” لم تكن مطروحة يومها. كان هنالك مـــن يقول انّ هذه البلاد بحاجة إلـــى مـــن يحضّرها، وهو كلام شائع في تلك الفترة، التي تـُعتبر العصر الذهبي للاستعمار.
وكان هنـاك مـن يقول أن فلسطين بلد فقير قاحل. لكن أحدا لم يقل انها لم تكن بلدا أو أنهـا كانت بدون شعب أو زراعة أو حـِرَف، بدليل أن هؤلاء الرحالة وصلوا إلى مناطق كتبوا عنها أنها غارقة بزهر البرتقال .

الحوادث: بجملة واحدة ماذا يقول الكتاب؟
فاروق مردم: إنـه يـقـول إذا كانـت فلسطـين صحـراء فعـلا… فـإن هذه الصور والنصوص المنشورة تدل على أن العرب هم الذين زرعوا الصحراء. وهذه هي الشواهد حية لا يمكن إنكارها.

الياس صنبر: هناك لامارتين، وشاتوبريان، وبول روبير، وبيار لوتي.

الحوادث: والصور هل غطـّت معظم المناطق الفلسطينية؟
الياس صنبر: غطـّت معظمها ، ابتداء مـن القدس وعكا وحيفا ويافا ، وانتهاءا بغزة والرملة والناصرة ونابلس وجنين وبيت لحم والخليل وطبريا وجبل الشيخ واريحا ونهر الأردن والبحر الميت.. أي من شمال فلسطين إلى جنوبها، مما يسمى بصحرائها حتى سواحلها.

فاروق مردم: لأن الكتـاب أولا ً وأخيرا ليس لنـا ، إنـه لعـز الديـن قلق ، ولا نـريـد أن يُسلـّط الضوء علينا، إذا أحببتم ضعوا صورة عز الدين.


القدس خضراء منذ تلك الليلة

كانـت الشمس تترك فـي ظـل جناحها الغربي ، وتمسح بخيوطها الأفقية قمتها، التي تشبه قبّة هائلة، وكأنّ القمة الشفافة تستحم فــي الضياء، ولاتعرف الحد الغامض بين الأرض والسماء، إلا ّ ببضع أشجار ضخمة سوداء، وقد غرست فـوق الأرض العالية، ومـــن خلالها تشق الشمس بالضياء. كان جبل الزيتون، وكانت أشجار الزيتون ذاتها شواهد قدامى على عديد مــــن الأيام التي كتبت على الأرض، وفي السماء. قد روتها الدموع المقدسة، ورواها العرق والدم وعديد من الدموع الأخرى، منذ تلك الليلة التي أضحت فيها مقدسة.

لامارتين : 1831- 1832
( ذكريات وانطباعات ورؤى خلال رحلة المشرق )

 

 

 

 


وجاءنا الفلاحون يسقوننا ماء النبع…

توقفنا للغداء علــــــــــى حافة غابة مليئة بأشجار الزيتون والفستق والسنديان الاخضر والنبـات مـن كل لـون. وقد روعتنا الـوحدة وعظمـة الصـمـت ، فـالسماء رائـعـة، والشمس تــداعــب نــفــســهــا وســط أوراق الشجر، والطيور زاهية الألوان تقفز من غصن إلى غصن.

رمقنا طيور القطا وليس فيها مــــــــــن الوحشية إلا القليل، وهي تجـري على العشب مثـل الدجـاج، وجاءنا الفلاحون يمنحوننا ماء النبع، والفاكهة والألبان… ومع أننا كنا لا نزال في شهر مايو ( أيار) فإن المـحـاصيــل كان قـد تـمّ نضجها ، كان الفلاحون بجلابيبهم الفاتحة وقد غطوا رؤوسهم بالكوفيـات المتعددة الألوان ينتقلون بروعة فـوق القش والعشب المـُثقل بالسنابل الذهبية.

سودار دوفو : 1889
(روائع الأرض المقدسة)

 


عكا- حيفا: نخل بين الخليج والأرض

وفي قاع الخليج سهل فسيح، يُلقي عليه جبل الكرمل بظله، ثمّ حيفا شقيقة عكا تحتضن الشاطئ الآخر من الخليج وتتقدم صوب البـحر برصيفها الصخري الصغيـر، حيـث تتأرجح بعـض قوارب الصيد العربية…

إنها المتعة التي أحسسناها ونـحـن نـقطـع الخـليج اللطيف، الــذي يفصل حيفا عن عكا. أما المساحة الشاسعة لسهل حيفا فتخفيها عن يمينها باقات عاليـة كـثـة مــــــن أشجار الورود وقمم النخيل، التي تفصل الخليج عن الأرض. كنا نسير عـلى سريـر مــــــن الرمل الأبيض الناعم، لا تفتأ ترويه الموجة التي تطوي وتفرد مفارشها البيـضاء المضلّعة. ومن جهة الغرب جدران عكا البيضاء المهمشة، وبينهما يبدو الخليج وكأنه بحيرة واسعة يطمئن الموج إليها، وهو يؤرجح أصغر القوارب هوناً دون خوف.

لامارتين
( ذكريات وانطباعات ورؤى خلال رحلة المشرق )

 

 


يافا: فاكهة تعطّر البحر

ليست فتنة هذه الحدائق في شكل أرضها، إذ لاترى العين بين أشجارها أي شريط من الأرض. لكـن الروعـة في عظمة وضخامة وكمال وثمار تلك الحدائق. الزهور تبدو إلى مالانهاية وقد غطـّت فــي شهر شباط الليمون والبرتقال، وعطّرت أنحاء يافا إلى مسافة ساعتين من السير على الأقدام .

ويستنشق البحارة وسط البـحـر علــى مــدى تلك المسافة أريج العطر الفوّاح للأشجار العديدة، التي تثمر كميات خيالية مـــــن الثمار الشهية.

وهناك شجـر الـرّمان بخـضرته الكـثّة الداكنـة وزهيـراتـه الصغيرة، التي تعـطي الثـمار لـونها الدمـوي الذي يميـّزها فـي تـلك الحدائق الفيحاء ، وأشجار الكروم تنقش الأرض بأوراقها الكبيرة وقطوفها المُثقلة بالسكر والكحول.

أما قصب السكر فيزدهر بكثافة ويريح أنظار المتنزهين، وأشجار الموز بأوراقها التي يبلغ طولها أمتاراً عدّة وتجذب الانتباه وتـثيـر
إعجاب الأوروبيين.

وتبدو أوراق شجر التوت وكأنها تدعو المسافر لأن يستريح في ظلها، ويتوافر البطيخ وغيره من الفواكه المُستعذَبة، وقد أشرف عليه النخيل، الذي يمتد إلى آماد عالية. إن تربة هذه الحدائق رملية طفيلة، وفي كل حديقة بئر تعلوها طاحونة يديرها حمار أو بغل.

1876
دليل الأراضي المقدسة

 

 


الرملة : نخلة في فناء الدير …

كنّا نستمتع بمنظر رائع، فبيوت الرملة هـــــي أكواخ جصيّة تعلوها قباب صغيرة كتلك التـــي تعلو مسجـداً أو ضريحـاً لأحد الأولياء. وهي تبدو وسط غابة من أشجار الزيتـون و التين والرمان، محاطة بالصبار الذي يتخذ أشكالا غريبة. إنها تحتشد متشابكة تثير الفوضى في اللوحات المليئة بالأشواك.

وسط هذه المجموعة المضطربة مـــــن البيوت والأشجار تعلو أجمل أشجار النخيل في الغور. كانت هنالك بخاصة نخلة وسط فناء الدير لطالما استهوتني، إذ كانت تعلو أكثر من ثلاثين قدما، وتزدهر فـــــــي رشاقة بسعفـها المائل الذي ينسدل من تحته الثمر كأنه حبات مـــــن المرجان .

شاتوبريان 1806
( مسيرة من باريس إلى القدس عبر اليونان )


غزة … وليس لنوافذها زجاج

الإقتراب مــــن غزة متعة للنظر، فالطريق يمر بسلسلة مـــــن الحـدائق الموشاة بأشجار الجميز التي تعطي ظلاً محببـاً فـي الصيـف. ولا توجد فـي غـزة بقايـا من الآثار القديمة. شوارعها ضيّقة، وأغلـب بيوتها وسط حدائـق غنّـاء، ولا تغطي نوافذها بالزجاج والمؤن وافرة زهيدة الثمن.

1844
( دليل الشرق)


الناصرة : نافورة زارها المسيح

قرب نافورة السيدة العذراء التي صعدنا إليها على صهوات الخيل، كان الصباح صحوا، ونساء الناصرة يتجمعن ليملأن مـــــــن مياه النهر.

ولمّا كانت تلك النافورة بالذات هـــــــي التي غذّت المـدينة منذ أقدم العصور فإن مما لاريب فيه أن المسيح كان يأتي إليها مراراً مع أمه، وكانت المشاهد وجماعات الصباح تكاد تشبه مانراه اليوم.

كانـــــت النسوة يتمايلن بمرونة رشيقة وسط شـعـاع الشـمـس، على حافة النافورة العتيقة المغطاة بالحجر ، وينحنيـن حتى يضعن جرارهن المملوءة بالماء، وهي تماثل الفخار الذي نجده محفوظا منذ الفي أو ثلاثة آلاف عام …

وعلى طول الشارع الصغيرالمُتْرَبِ الذي نتابع فيه السير بعد التوقف عنـد الكنائس، تظل محلات “السروجية” حـيث تباع سروج الخيل المزركشة بطلاء مشرقي بهيج، وتـــبـــدو وراء الحـــيطان القصيرة للحدائق أشجار التين والرمان والنخيل الذي تطوقه أشجار الكروم.

بيار لوتي : 1896
( الجليل )

 


 

باريس ــ منير الزين، مجلة الحوادث الصفحات 75 \ 76 \ 77

إقرأ أيضا

Leave a Comment