موقع الشهيد عز الدين قلق

الحوار الأخير في باريس

الشاعر محمود درويش |….قد اعترفوا أنهم قتلوني
ولكنهم عانقوني طويلا
ودسّوا مكان الرصاصة عشرين ألف فرنك مكافأة للخطاب،الذي سوف أقنعُ فيه اليسار الفرنسيّ
أنّ السجون على ضفة النهر مستشفيات
وأنّ دمي مائدة .

التجسيد الإذاعي للقصيدة من إعداد كل من المخرجين التونسيين عامر بوعزة والبخاري بن صالح.
تلي القصيدة دراستان نقديتان للدكتور ثائر زين الدين وعبد المنعم الأعسم

…على بابِ غرفتهِ قالَ لي : إنهم يقتلونَ بلا سببٍ
هل تحبُّ النبيذَ الفرنسيَّ؟
والمرأة الشاردهْ
تطلَّعَ خلفَ الجهاتِ , وحاولَ أن يفتحَ البابَ
لكنّهُ خافَ أن يخرجوا من خزانتهِ
فرجعنا إلى المصعد….
الساعةُ الواحدهْ
وباريسُ نائمةٌ . من هنا يبدأ الليلُ
من أينَ ؟ من شارعٍ واسعٍ لا يسيرُ عليه سواكَ’
ومن شجرٍ لا تراهُ’
ومن جسدٍ أبيض يشتهيكَ’
ومن طلقةٍ قد تراكَ
أتقرأ كافكا وتدخلُ في الليل؟
كان زماناً جميلاً وكانتْ دمشقُ نهاياتِ أحلامنا
ذهبنا إلى بردى وسألناهُ:
هل أنت نهرٌ أم اُمرأةٌ زاهدهْ؟
فلم يخرجونا إلى النهر ثانيةً…
صاحِ ! هذي زنازيننُا تملأُ الأرضَ من عهدِ عادٍ’
فأين البياضُ وأينَ السوادُ؟
….وباريسُ نائمةٌ في الرسومِ على حافةِ السِّيْنِ
كُلُّ روايات باريسَ غَارقةٌ في التلوث
وحدهُمُ العاشقونَ يظنونَ أن المياهَ مرايا فينتحرونْ….
أين ننامُ أخيراً؟
على مقعدٍ في الحديقةِ
قلتُ : ألا يقتلون هنا؟
قال لي: ربما يقتلون
ولكنه تَعَبٌ لا يخافُ
وقلت : أيوجعُكَ الليلُ؟
قال : وتوجعني الروحُ والنجمةُ الباردهْ

لعلَّ الفتى حجرٌ…
من بعيدٍ يرى مُدُنَ البرتقالِ السياحيِّ
والكاهن العسكريِّ
ولكنه يجمعُ الملصقات ويكتب فوق بقايا السجائر آراءهُ في الغزاةِ
الذين إذا شاهدوا مُدُناً هدموها بأسمائهم واستراحوا على العشبِ
قال : لماذا تكون الثقافةُ ظلّ الجنودِ على ساحلِ الأبيضِ المتوسط؟
قلتّ: وخادمةً للبلاطِ وللفئة الزائدهْ
…. قد اعترفوا أنهم قتلوني
ولكنهم عانقوني طويلاً
ودسّوا مكان الرصاصةِ عشرين ألف فرنكٍ مكافأةً للخطابِ الذي سوف أُقنعُ فيه اليسارَ الفرنسيَّ أن السجونَ على ضفةِ النهر مستشفياتٌ
وأنَّ دمي مائدهْ

وكان صديقي يطيرُ
ويلعب مثل الفراشة حول دمٍ
ظَّنهُ زهرةً ،
كان مستسلماً
للعيون التي حفظتْ ظلَّهُ
وكان يرى ما تراه العيونُ التي حَفظت ظلّهُ
كان مزدحماً
بالأزقة والذاهبين إلى السجن والسينما
والليالي التي امتلأت بالليالي
وباللغة الفاسدهْ
وكان يودَّعني كلما جاءني ضاحكاً
ويراني وراء جنازتِهَ
فيطلّ من النعش
هل تؤمن الآن أنهمُ يقتلون بلا سببٍ؟
قلتْ : مَنْ هُمْ؟
فقال : الذين إذا شاهدوا حُلُما
أعدّوا له القبرَ والزهرَ والشاهدهْ

وكان يحبُّ وينسى…
ويسألني دائماً : يا صديقي لماذا أُحبُّ وأنسى التي سأحبُّ ونبقى
غربين في مصعدٍ ينظران إلى الساعةِ الجامدهْ؟
يحبُّ وينسى
ويذكر شكل النباتات حول الدروب التي خرجتْ من شمال فلسطين في شهر مايو ولم ترجع
الأغنياتُ التي ودَّعتْ نازحا
والأغاني التي استقبلتْ فاتحا
تتشابهُ،
قالَ: أفكَّرتَ في الانتحار قليلاً؟
نعمْ
ألأنَّ الرفاقَ يخونون مثل الغدير
لأنَّ الرفاق يمرّون كالساقيهْ؟
قلتُ : كلا ! أينتحر المرء من أجل جُمّيزةٍ هامدهْ؟
قال : كلا
أأدركتَ أنَّا نمرُّ على الأرض ظلاّ
وجسمك ليس نحاساً ليحمل هذا الزمان
وقال : أتذكُر منذ ثلاثين عاماً…؟
وأذكر كنتُ أمدُّ يدي في بياض النهار
وأنتشلُ القلب من قطّة تتسلى
بما يترك الزائرون على الباب : أسرى وقتلى
فقلتُ : ومملكةُ الله أحلى.
وقال : أفكَّرت بالانتحار كأبناءِ جيلك؟
قلتُ: وكنتُ كأبناء جيلي أُحبُّ فتاةً من الموجِ
كان المساء جريحاً بلا سببٍ واضحٍ تحت شرفتها الواعدهْ

وقفتُ وناديتُ، كان الصدى حجراً
فذهبت إلى شاطئ البحر. ناديتُ. كان الصدى قمراً
فجلستُ على صخرةً في المياهِ
وأعددت موتي
فشاهدت وجهي في الماء
خفتُ،تراجعتُ، ثمّ رجعتُ إلى الماء
لكنهم أوقفوني في اللحظة الساجدهْ

وفي سجن عكّا القديم تعلَّمتُ كيف تصيرُ النساءُ وطنْ
وأين الفتاة إذنْ !
فوق شرفتها
تحبُّ الأغاني وتنسى المغنِّي
وتعزل موجتها العائدهْ

….ويقفزُ فوق بلاطِ الشوارعِ
مثل طيورٍ مُبَلِّلة بالزوابعِ
والبرقِ,
يرمي لنا ذكريات عن الشرق :
أُمي تحبُّ دمشق
أبي يتمنَّى الرجوع إلى حجرٍ نام في صدرِهِ
وأُختي تظنُّ العراق بعيداً
وتحسب أن السواد ليالي
فأخبرتُها أنه شجرٌ في الغروبِ
ونؤمن أن دمي يكسر السيفَ… والقاعدهْ

أمِنْ جبلٍ حوَّلْتهُ الليالي إلى قُبَلٍ
أنا ؟
هل تمدَّدتَ تحت الصنوبر؟
خمسةَ عشرَ شتاءً
وبلّلكَ الماءُ؟
بلّلني فذهبتُ إلى الراهبِ الأرثوذكسيّ صلّى أمامي وصلّى لأجلي
وكان جنودُ المظلاّت ظلّي
فلم يستطيعوا دخول الكنيسةِ..
آهٍ على جبلٍ يتشعَّب في جسدي كالشعيرات ’ مليونُ رَحْمٍ يُصلِّي لميلادنا
يا صديقي
ولا تَلِدُ الوالدة
أكنتَ تغنّي كثيراً لها ؟
من هي؟
سَمِّها ما تشاءُ: النساءَ، المرايا، الكلام، البلاد، اتحادَ العصافير في القمح، أول الخلايا، وأوَّلَ موجٍ تَشَرَّد في البرُِ

مستسلماً للتداعي رأى قلبهُ حَبَّةً من عنبْ….
رأى قلبه غيمةً فوق حقل الذهبْ
وتابع غَسْلَ الحقول من الحشراتِ الصغيرةِ , ثم تساءل : كيف يصير المغنّون أُغنيةً عندما يعرفون النساءَ وينسون؟
كُنَّا نغنَّي معاً للغموض الذي
لَفّنا : في الممرِّ الصغير تنامينَ وحدَكِ بين ذراعيك وحدكِ عُشَّاقُكِ اقتربوا
من خناجرهم في الممر الصغير تنامين وحدكِ يلتمس البحر وُدَّكِ ينكسر
البحر عندكِ عُشَّاقُكِ ابتعدوا عن خناجرهم آهِ أيتها المرأةُ الحاملُ المرأةُ
القاتلُ الأرض أصغرُ من صمتك المتواصِلِ لكنَّ بطنكِ أصغرُ
من طعنةٍ أو نشيدٍ سننشدُهُ في الممرِّ الصغيرِ تنامين وَحدَكِ بيني وبينك وَحدكِ بين ذراعيكِ وحدكِ عشاقُكِ اقتربوا من خناجرهم آهِ أيتها المرأةُ الخالدهْ

تُرى , هل يحقُّ لمثلك أن يتأمَّل لوحهْ؟
وأن يتساءل عن مصدر اللهِ
أو يجد الفَرْقَ بين الحمام ومنديل أُمٍّ تودٍّعُ؟
هل نستطيع التجوُّل في السان جرمَان كالغرباءِ الذين يشمون أرض فرنسا
من الجوِّ؟
هل نستطيع الذهاب إلى البرجِ واللُّوْفْرِ؟

هل نستطيع مشاهدة المسرحية دون تقمص أبطالها المتعبين؟
لماذا نكون كما لا نكون ؟
ألم تجد امرأة واحده
تمشط شعرك هذا الصباح
فترتاح للتعب الوثني
فلا يقتلونكَ حين تمرُّ
بلا حارسٍ أو لُغهْ
ألم تجدِ امرأةً واحدهْ
تُطيلُ الصباحَ علي الجسر؟
قد يتعبون من الانتظار
وقد يذهبون إلي نزهةٍ في حدائق فينسانْ
وقد يخجلون من الكلمات التي ستقول لها عن رحيلٍ بلا فائدهْ.

. . . يعرفُ أن الجنود يعودونَ
يعرفُ أن الحشائش سيِّدةُ الأرضِ
لكنه يعبر النهر من أجل أن يعبر النهر
هل تعرف الضفَّةَ المشتهاةْ؟
تماماً كما أعرفُ القلبَ أو أجهُلهْ
ولكنني سأطيعُ خطىّ بدأتَ
وأحمل قلبي إلي جَرَسٍ يشتهيهِ
أطيع خطايَ وأحمل قلبي إلي حَرسٍ يشتهيهِ
على خطوةٍ صاعدهْ.

….يرى موتَهُ واقفاً بيننا فيدخِّنُ كي يُبعدَ الموتَ عنا قليلاً.
يُصفِّر لحناً سريعاً ويطردُ عن معطفي نحلةً ’ ويتابعُ : في شهر تموزَ تذهبُ باريسُ نحو الجنوب , وقد يذهبُ القتلَهْ.
يرى موتَهُ في النبيذِ فيهتف : سيدتي غيِّري قَدَحي . ويتابعُ : كانوا ورائيَ في معرض المُلْصَقاتِ فأسندتُ نافذةً واستدرتُ وصافحتُهم واحداً واحداً….
يلعبُ الموتَ’ يألفُهُ ’ ويباريه . يعرفهُ جيداً ويعرفُ كلّ مزاياهُ ’ يشرح أنواعه: طلقةٌ في الجبين فأسقط كالنسر فوق السفوحِ ،
وقنبلةٌ تحت سيّارتي فتطيُر ذراعٌ إلى الشرفاتِ وتكسر آنية الزهر أو شاشة
التلفزيونِ ,
قنبلةٌ تحت طاولةٍ أو رصاصٌ على الظهرِ أو طلقةٌ تحت حنجرتي هكذا الموت ’ أبسطُ مما تظنُّ
أيوجعُ؟
حين يكون الفتى خائفا
هل تخافُ
إذا جاءني زاحفا
وبطيئاً , فقد أعرف القاتلا
وقد أعرف الطلقةَ الوافدهْ
….على بابِ مكتبهِ شجرُ الكستناءِ
ومقهى صغيرٌ
وقوسُ حمامْ
يرى طالباً عربياً فيرمي عليه السلامْ
يَرُدُّ بطيئاً
ويشرب قهوتَهُ
يصعدُ السُّلَّمَ الحجريَّ
سريعاً كعادته مثل طيرٍ يُبَلِّلهُ البرقُ
يدخل غرفتهُ. يتأمِّلُ أوراقه والخريطةَ والشهداءَ الكثيرين
فوق الجدارِ ويقرأ برقيَّة من دمشق : ((تعالَى مع الصيفِ يا ابني))،
وبرقَّيةً من بقيَّة بيروت: ((شدِّدْ عليك الحراسة))
لم يتساءلْ لماذا يريدون أن يقتلوه
ولم يتذكر بلاداً تنام على صُرَّة الله مثل المسدّسِ,
لكنهم أخبروهْ
أن صاحبَهُ الطالبَ العربي يريد مقابلة عاجلَهْ
فألقى عليه تحيَّتهُ الشاردهْ
وردَّ بأقصرَ منها … وبالطلقةِ القاتَلَهْ
وعاد إلى شجرِ الكستناءِ
ليشربَ قهوته الباردَهْ

محمود درويش*


(*)_ شاعر المقاومة الفلسطينية، وأحد أهم الشعراء الفلسطينين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن السليب

 * * *

 لقد استطاعت الحوارات الكثيفة في مقاطع القصيدة المختلفة أن توجزَ الكثير من المعلومات والوقائع التي كانت ـ لولاها ـ تحتاجُ إلى مساحات كبيرة لتقديمها كما تمكنّت الحواراتُ أيضاً أن تشعرنا بإيقاعات الأصوات؛ بألوان تلك الإيقاعات المختلفة، التي قدّمت إلى حدٍ بعيد انفعالات هاتين الشخصيتيّن.

خلف عربة الشعر
دراسة نقدية لقصيدة الحوار الأخير

الدكتور ثائر زين الدين*

دراسات في الشعر العربي المعاصر- من منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق 2006

قصيدة “الحوار الأخير في باريس / لذكرى عز الدين قلق” تمثلُ نموذجاً ساطعاً للنجاحات الفنيّة، التي يمكن أن يحققها الشاعر مسترفداً تقانات القصة وأساليبها: ضاخاً في الشعر العربي دماءً جديدة، ما كان لها أن تتدفق في عروقه لولا تلك المعرفة العميقة بفن القص وفن المسرح؛ بالإضافة ـ بطبيعة الحال ـ إلى موهبةٍ شعرية عالية، لا حاجة للحديث عنها!

القصيدة واحدة من قصائد الرثاء غير التقليدي، التي كتبها الشاعر في أصدقائه من شهداء ثورة التحرير الفلسطينية، وهي لا تأخذُ عنصراً واحداً من عناصر القصّة فقط، ولا تستعير تقنية واحدة فحسب، أو تفيد من ملمحٍ معينٍ من ملامحها دونَ سواه، لا إن الشاعر ينظمها وكأنّه يكتب قصة قصيرة؛ إنها تنهضُ على دعامتين ثابتتين: الحكاية، والطريقة التي ستحكى بها الحكاية وتسمى سرداً (41)، كما أن عناصر القص الرئيسة واضحةُ المعالم: من عرضٍ، ونموٍ، وحوار أو عنصرٍ مسرحي(42).

يستخدم الشاعرُ في النص نمطي السرد المعروفين: الذاتي والموضوعي، مغلّباً الأوّل الذي يقوم على تقديم كل شيءٍ للقارئ من خلال ما يعرفه الراوي ويراه ويحسّهُ، ثم يلجأ في المقطع الأخير من القصيدة إلى استخدام السرد الموضوعي، فيروي حادثة الاغتيال على لسانِ راوٍ مطلعٍ عليمٍ ببواطن الأمور، وغير مشاركٍ في الحدث.

سنرى في هذه القصيدة ـ بعكسِ قصيدته التي درسناها سابقاً ـ تعددَ ضمائر السرد، وتعدد الأصوات التي تستخدم المنولوج والديالوج في انسجامٍ واتساقٍ مذهلين.

تبدأ القصيدة على شكل سردٍ ذاتي، نتلقاهُ عبرَ ذات الشاعر/ الراوي، مُتذكراً لقاءهُ الأخير مع صديقه في باريس:

“… على بابِ غرفتهِ قالَ لي: إنهم يقتلونَ بلا سببٍ

هل تحبّ النبيذَ الفرنسيَّ؟

والمرأةَ الشاردةْ.

تطلعَ خلفَ الجهاتِ، وحاولَ أن يفتَحَ البابَ،

لكنّه خافَ أن يخرجوا من خزانتِهِ

فرجعنا إلى المصعد….”(43)

افتتحَ الشاعرُ/ الراوي نصّه بضمير المفرد المتكلّم، ووضعنا مباشرةً في جوهر المشكلة؛ في أعماق القصّة، متجاوزاً أي تمهيد، وقافزاً فوقَ ما نسميه في القصّة التقليديّة: العرض، وقد سعى بذلك إلى شد انتباه المتلقي إلى أقصى درجة ممكنة، وتحريضه على المتابعة من خلال رسم غرابة سلوك بطله، الذي يخشى أن يفتحَ باب شقته خوفَ أن “يخرجوا من خزانته” فيعودُ وضيفهُ (الراوي) إلى المصعد ثم ينزلان إلى شوارع باريس، ليدعوهُ لشربِ كأسٍ من النبيذ، بعد أن يسأله إن كان يحبُّ النبيذ الفرنسي، فيجيبهُ الشاعر/ الراوي: والمرأةَ الشاردة. ثم يتابعُ سرد قصتّه:

“…الساعةُ الواحدةْ

وباريسُ نائمةٌ. من هنا يبدأ الليلُ

من أينَ؟ من شارعٍ واسعٍ لا يسيرُ عليه سواكَ

ومن شجرٍ لا تراهُ

ومن جسدٍ أبيضٍ يشتهيكَ

ومن طلقةٍ قد تراكَ.

ـ أتقرأُ كافكا وتدخل في الليل؟

كانَ زماناً جميلاً وكان دمشقُ نهايات أحلامنا

ذهبنا إلى بردى وسألناهُ:

هل أنتَ نهرٌ أم امرأةٌ زاهدهْ؟

فلم يخرجونا إلى النهر ثانيةً…

صاحِ هذي زنازيننا تملأ الأرضَ من عهدِ عادٍ،

فأين البياضُ وأين السوادُ؟”(44)

إن الجزء الأوّل من هذا المقبوس يضعنا أمام “قصّة الإنسان الفرد، الذي قذفته ظروف الحياة نحو الانخلاع والعزلة، فابتعد، أو أبعد، لينادي من أقاصي عزلته باقي البشر (إنني أخوكم… فلماذا أتركُ وحيداً)، وهذا النداء نسمعُهُ في كل قصة قصيرة منذ تردد، وبكل هذا الوضوح في “معطف غوغول”(45)، ولعل هذا الشعور هو ما دفعَ الراوي ليسأل صاحبه: “أتقرأ كافكا وتدخل في الليل” لما في أعمال كافكا من أجواء مشابهة لذلك.

أشارَ فرانك أوكونور ـ ذات يوم ـ إلى أن غرابة سلوك الشخصية هي دم حياة القصة القصيرة (46)، وربما من قبيل المصادفة قدم محمود درويش هنا شخصيةً في سلوكها شيءٌ من الغرابة، لكن مصدر هذه الغرابة سيصبح معروفاً تماماً حين يتابعُ القارئ النص، ويدرك أن هذا المناضل المشاكس، الرافض، الذي يحثُ أبناء وطنه على رفض واقعهم المقيت ـ مهددٌ بالتصفية من بعض أبناء قومهِ، وكي لا تظل الشخصية مبهمة لاحظنا أن الشاعر / الراوي، بدأ يقدم لنا نُتَفاً من العرض، الذي أخّره عمداً، فحدثنا عن سلوك تلك الشخصية المشاكسة عندما كانا في دمشق.. ثم دخل في تناصٍ مفاجئٍ مع بيتٍ معروفٍ من شعر المعري:

صاحِ هذي قبورنا تملأ الرحـ  ..بَ فأين القبورُ من عهدِ عادِ

فاستبدلَ مفردة (القبور) عنده بـ (الزنازين)، ليعبّر عن كثرة السجون والمعتقلات على سواحل المتوسط، التي تشبهُ بكثرتها، واعتياد وجودها، القبورَ!

وسيتابُعُ الراوي أسلوبَهُ هذا نابذاً جوانب العرض غير الضرورية، وماداً القارئ بالقدر الكافي من المعلومات دونَ زيادة أو نقصان:

“…وباريسُ نائمةٌ في الرسوم على حافةِ السينِ

كلُّ روايات باريسَ غارقةٌ في التلوّث

وحدهُمُ العاشقونَ يظنونَ أن المياه مرايا فينتحرونَ…

ـ أين ننامُ أخيراً؟

على مقعدٍ في الحديقةِ

قلتُ: ألا يقتلونَ هنا؟

قالَ لي: ربّما يقتلونُ، ولكنّهُ تعبٌ لا يخافُ،

وقلتُ: أيوجعك الليلُ؟

قال: وتوجعني الروح والنجمة الباردة”(47)

حتى بعض تلك العبارات، التي قد تبدو زائدة، ولا تضيف شيئاً، نستطيعُ لو تأملنا قليلاً أن نكتشف الغايات الفنية لوجودها… فالحديث عن باريس في الأسطر الثلاثة الأولى من المقبوس، وقد جاءت ضمن حديث الراوي، وفي سياق حوارٍ مع عز الدين قلق، أفادَ بشكلٍ أو بآخر “عرض مسرح الأحداث بشكلٍ حي ومباشر بدلاً من الموجز، الذي ينقُلهُ الراوي العليم ببواطن الأمور.

هذا العرض الممسرحُ من خلال حوارٍ يستدعي الماضي إلى الحاضر كأننا في مسرح”(48)، بل يستدعي أحياناً أسطورة من عمق الزمن الغابر ـ كأسطورة نرسيس ـ فتضيء المكان الجديد، وترسمُ دون مباشرةٍ أو افتعال بعض ما يحدثُ في ليالي باريس، التي هي مسرح جريمة الاغتيال.

بنهاية المقبوس السابق ينتهي المقطع الأوّل من القصيدة، وتأتي مساحة بيضاء فاصلة قبل أن يبدأ المقطع الثاني؛ الذي نحارُ في زمن حدوثِ ما يتضمنه، ثم نكتشفُ ـ بعد استعراض جملة من الاحتمالات ـ أن الراوي نفسه ما يزال يتابع سردَ ما يتذكره من اللقاء الأخير مع صاحبه بضمير المتكلم… ربما استلقى كل من الشاعر وصديقه فوق معقدٍ في الحديقة، خشيةً أن يعودا إلى الشقة فيجدا القتلة بانتظارهما، وراحا يتحدثان:

“لعلّ الفتى حجرٌ…

من بعيدٍ يرى مُدنَ البرتقالِ السياحيِّ

والكاهنِ العسكريِّ

ولكنّهُ يجمَعُ الملصقاتِ ويكتبُ فوق بقايا السجائر آراءَهُ في الغزاةِ

الذين إذا شاهدوا مُدناً هدموها بأسمائهم واستراحوا على العشبِ.

قالَ: لماذا تكونُ الثقافةُ ظلَّ الجنود على ساحلِ الأبيضِ المتوسطِ؟

قلتُ: وخادمةً للبلاطِ وللفئة الزائدة.

….قد اعترفوا أنهم قتلوني

ولكنهم عانقوني طويلاً

ودسّوا مكانَ الرصاصةِ عشرين ألف فرنكٍ مكافأةً للخطاب الذي سوفَ

أقنعُ فيهِ اليسارَ الفرنسي أن السجونَ على ضفةِ النهر مستشفياتٌ

وأنّ دمي مائدة”(49).

افتتحَ الراوي المقطعَ بعبارة: “لعلَّ الفتى حجرٌ….”، التي استحضرت في أذهاننا على الفور بيتَ تميم بن مقبل:

ما أطيبَ العيش لو أنّ الفتى حجرٌ  – – –  تنبو الحوادثُ عنهُ وهو ملمومُ

ولم يساعدنا ـ على الإطلاق لا بالكلامِ ولا بالإشارات ـ في معرفة قائل هذه العبارة، هل قالها عز الدين قلق؟ فاستدعت في ذهن الراوي صورة صديقه في دمشق، أو القاهرة أو بيروت أو أي مكان آخر عندما كان لا يستسلم لليأس، فيجمع الملصقات، ويكتب آراءَه في الغزاةِ على عُلب التبغ، أو أعقاب السجائر، إن عزّ إيجاد الورق… أم قالها الشاعر/ الراوي ضمنَ منولوج داخلي بينما كان يتملى وجه صديقه ويتذكرهُ في غابر الأيام، لينقُضَ بيتَ تميم بن مقبل نفسه، مؤكداً أن الفتى قد يكون أحياناً من الثبات على مبادئهِ والإخلاص لأحلامهِ ومواقفه ـ كالحجر الصلد؛ الذي تمر به الحوادث وتعبرُه المصائب دون أن تفعل به شيئاً.

وفي الحالتين فالغايتان: (الفنية والمعنوية) محققتان؛ فمن خلال الأسطر الخمسة الأولى بما فيها من مُناجاة، ثم الحوار بعد ذلك، رأينا القاص ينظم حبكة العمل ويطوّر المضمون الذي ما زال مجهولاً حتى الآن.

إن الأسطر الأخيرة من المقبوس، وقد جاءت على لسان عز الدين، قدّمت بشكل غير مباشر شرحاً وبياناً يفسران ما سيحدث فيما بعد، ووفّرا على الراوي أن يفعل ذلك بلسانه هو فيبدو متطفلاً وغير مقنع.

لقد كان على الشهيد أن يبيع نفسه لقاء مكافأة ما، فيكون مطيعاً للأوامر التي تأتيه من أحد الأمكنة، ويرسم صورةً كاذبة لما يجري في الوطن؛ وإلا فسيدسون الرصاصة في موضع المكافأة!

مع أنهم قد قتلوهُ سلفاً منذ لحظةِ طلبهم هذا؟؟

يأتي بعد ذلك فاصل أبيض، يعقبه مقطع يغلب عليه الوصف… وكأنَ الراوي أرادَ أن يساعدَ الحوار بتقنية أخرى على غاية كبيرة من الأهمية، هي الوصف لقدرة هذا المكون على تحقيق الوظيفة التجسيدية، وسنجدُ الوصفَ بعد قليل في خدمة الحدثِ تماماً، ونجد الشاعر/ الراوي قادراً ـ كأمهر كتّاب القصة القصيرة ـ أن يسردَ من خلال الوصف؛ ليس في المقطع التالي فحسب، بل فيما يليه أيضاً إنه بوصفه الذي سنقرؤه أدناه يقدّمُ ما يشبه مشهداً مسرحياً، لكنّهُ “ليسَ تزامنياً كأنّه لوحة مكانيّة، بل هو تتابعي كأنّه دراما زمنيّة”(49):

“وكانَ صديقي يطيرُ

ويلعَبُ مثلَ الفراشةِ حولَ دمٍ

ظنّهُ زهرةً؛

كان مستسلماً

للعيون التي حفظت ظِلَّهُ،

وكانَ يرى ما تراهُ العيون التي حفظت ظِلَّهُ

كانَ مزدحماً

بالأزقّةِ والذاهبينَ إلى السجنِ والسينما

والليالي التي امتلأت بالليالي

وباللغةِ الفاسدةْ

وكان يودّعني كلما جاءني ضاحكاً

ويراني وراء جنازتِهِ

فيطلُّ من النعشِ:

هل تؤمنُ الآنَ أنهمُ يقتلونَ بلا سببٍ؟

قلتُ: من همْ؟

فقالَ: الذينَ إذا شاهدوا حُلُماً

أعّدوا لـه القبرَ والزهرَ والشاهدة”(50).

في الأسطر السبعة الأخيرة من هذا المقبوس، يضعنا الشاعرُ/ الراوي أمامَ نبوءةٍ كانَ يطلقها عز الدين قلق دائماً وهو يضحك، أما الراوي الذي تقمَّصَهُ الشاعر فقد قدّمَ بذلك ما يسميه بعض النقاد إرصاداً (51) إن هذه التقنية تنازعُ “تنظيم القصة المُسبق، وهي كنبوءة تشوّش المستقبل بأن ترفَعَ عنُه القناع قبلَ الأوان استباقاً”(52) ولكنها مع كل ما تمثله من تمرّدٍ بنيوي من قبل فقرةٍ أو جزءٍ من أجزاء الحكاية على المجموع الذي يحتويها، تغني بنية العمل وتحرّرهُ من الرتابة وتنمي في المحصّلة الدراما التي يثيرها إنجاز الحكاية(53).

ويأتي بعد ذلك فاصل أبيض، يعقبهُ مقطع جديد يتابعُ الراوي في بدايتهِ وصفَ صديقه، ثم بالتفاتهٍ ذكية يلقي نظرة على المكان الذي يضمهما: “ونبقى غريبينِ في مصعدٍ ينظرانِ إلى الساعة الجامدة”

هو لم يقل لنا مثلاً: عدنا من الحديقة صباحاً وركبنا المصعد وتذكرّتُ كذا وكذا! لقد ترك لذكرياته التي تنجسُ فجأةً… أنّ تقدم مشاهد متفرقة… متباعدة، في أماكن متعدّدة، فإذا ما جَمَع القارئ تلك الصور الرائعة معاً وجَدَ نفسه أمام بورتريه كامل لبطلِ القصيدة/ القصّة:

“… وكانَ يحبُّ وينسى

ويسألني دائماً: يا صديقي لماذا أحبُّ وأنسى التي سأحبُّ، ونبقى

غريبين في مصعدٍ ينظرانِ إلى الساعةِ الجامدةْ؟”

وتجرُّ عبارة “يحب وينسى” شريطاً طويلاً من الذكريات المشتركة بين الشخصيتين؛ وباستخدام السرد والوصف والحوار معاً سيضيء الراوي شخصيّةَ بطله بشكل عميق راسماً ملامحها بدقّة.. مرّةً من خلالِ صورتها في عينيه، ومرّةً من خلالِ كلامها نفسه، ومَرّةً من خلالِ مواقفها في هذه اللحظة أو تلك؛ مستدعياً الكثير من الماضي إلى الحاضر، مثيراً فضول القارئ من خلال بعض التحذيراتِ والوعودِ والاستشرافات:

“يحبُّ وينسى

ويذكرُ شكل النباتاتِ حولَ الدروبِ التي خَرَجت من شمالِ فلسطينَ في

شهر مايو ولم ترجعِ

الأغنيات التي ودّعت نازحاً

والأغاني التي استقبلت فاتحاً

تتشابهُ،

قالَ: أفكرّتَ في الانتحار قليلاً؟

نعمْ

ألأنَ الرفاقَ يخونونَ مثلَ الغديرِ

لأنَ الرفاقَ يمرّونَ كالساقيةْ؟

قلتُ: كلا! أينتحرُ المرءُ من أجلِ جميّزةٍ هامدةْ؟ قالَ:كلا.

أأدركتَ أنا نمرُّ على الأرضِ ظلاّ

وجسمُكَ ليسَ نُحاساً ليحملَ هذا الزمانَ

وقالَ: أتذكُرُ منذُ ثلاثينَ عاماً…؟

وأذكرُ كنتُ أمدُّ يدي في بياض النهارِ

وأنتشلُ القلبَ من قطّةٍ تتسلّى

بما يترُكُ الزائرونَ على البابِ: أسرى وقتلى

فقلُت: ومملكةُ الله أحلى

وقالَ: أفكّرت بالانتحارِ كأبناءِ جيلكَ؟

قلتُ: وكنتُ كأبناء جيلي أحبُّ فتاةً من الموجِ

كان المساءُ جريحاً بلا سببٍ واضحٍ تحتَ شُرفتها الواعدةْ”(54)

في المقطع السابق نلاحظ أن شخصيّة الشاعر/ الراوي بدأت تأخذ حيزاً من مساحة النص، في حين كانت غائبة خلال المقاطع السابقة وانحصر دورها في تقديم شخصيّة البطل، ورسم مسرح الحدث وما إلى ذلك.. أما الآن فقد منحها الشاعر شيئاً من اهتمامه، وأولى رسمَ ملامحها هي الأخرى بعض انتباهه.

لقد استطاعت الحوارات الكثيفة في مقاطع القصيدة المختلفة أن توجزَ الكثير من المعلومات والوقائع التي كانت ـ لولاها ـ تحتاجُ إلى مساحات كبيرة لتقديمها كما تمكنّت الحواراتُ أيضاً أن تشعرنا بإيقاعات الأصوات؛ بألوان تلك الإيقاعات المختلفة، التي قدّمت إلى حدٍ بعيد انفعالات هاتين الشخصيتيّن.

ويتابع الراوي في المقطعين اللاحقين سردَ تداعياتِ أفكارهِ، التي أجّجتها عبارة صاحبه:

“أفكرّتَ بالانتحار كأبناء جيلكَ” متحدّثاً خلال ذلك عن نفسه راسماً شيئاً من ملامحها وتجربتها مع الحبِ والسجنِ والانتحار، وكأنّه بذلك يمنحُ قارئهُ فترة استراحة، أو يوقفُ مسيرة الحدث قليلاً…. ليلملم شتات أفكاره، كي يتابعَ بعد ذلك بناء صورة لشخصيّة بطل قصيدته، دافعاً به نحو مصيره المحتوم:

“… ويقفزُ فوقَ بلاط الشوارعِ

مثلَ طيورٍ مبللةٍ بالزوابعِ

والبرقِ

يرمي لنا ذكرياتٍ عن الشرقِ: أمّي تحبُّ دمشقَ.

أبي يتمنّى الرجوعَ إلى حجرٍ نامَ في صدرِهِ

وأختي تظنّ العراقَ بعيداً

وتحسبُ أن السواد ليالي

فأخبرتُها أنّهُ شجرٌ في الغروبِ

وتؤمن أنّ دمي يكسر السيفَ

والقاعدة”(55)

وتتعالى المقاطعُ المشبعة بالحوار، مؤكدّةً ضغط الذاكرة على المخيّلة الشعريّة، بفعل حالةٍ من الانفعال العاطفي، والاحتداد النفسي، حتى تصل القصيدةُ / القصة إلى ذروتها؛ فيصرخ الراوي بصاحبه… وهو في هذهِ اللحظة بعيدٌ عنه:

“ألم تجد امرأةً واحدة

تمشّطُ شعركَ هذا الصباح

فترتاحُ للتعبِ الوثنيِّ

فلا يقتلونكَ حين تمرُّ

بلا حارسٍ أو لغةْ

ألم تجد امرأةً واحدة

تطيلُ الصباح على الجسر؟

قد يتعبونَ من الانتظارِ

وقد يذهبونَ إلى نزهةٍ في حدائقِ فينسانْ

وقد يخجلونَ من الكلماتِ التي ستقول لها عن رحيلٍ بلا فائدةْ”(56)

ويعودُ الراوي في القطعين التاليين إلى الحكي عن الشخصيّة بصيغة الغائب بعد أن خاطبَهُ في مقطعين سابقين بصيغة (أنت)، ليكملَ رسم شخصيّة تشعر بكل ما يحيطُ بها من ظروف شديدة القسوة، لكن رد فعلها على ذلك يعبّر عن هدوئها وثباتها وسيطرتها على زمام نفسها، بحيث ترفض التنازل، هي شخصيّة تكافح، وتمتلك إمكانية الانتصار على القوى المناوئة فيما لو ساعدتها الظروف لكنّها في النهاية تسقط مضرجةً بدمائها:

“يرى موتَهُ واقفاً بيننا فيدخّنُ كي يبعدَ الموت عنّا قليلاً. يصفّرُ لحناً

سريعاً ويطردُ عن معطفي نحلةً، ويتابعُ: في شهر تموز تذهبُ باريسُ نحوَ

الجنوبِ، وقد يذهبُ القتلةْ.

يرى موتَهُ في النبيذ فيهتفُ سيدّتي غيّري قَدَحي. ويتابعُ: كانوا ورائي

في معرض الملصقاتِ، فأسندتُ نافذةً واستدرتُ وصافحتهم واحداً

واحداً.. يلعبُ الموتَ، يألفُهُ، ويباريهِ. يعرفُهُ جيداً ويعرفُ كل مزاياهُ، يشرحُ أنواعَهُ: طلقةٌ في الجبين فاسقطُ كالنسرِ فوقَ السفوحِ.

وقنبلةٌ تحتَ سيّارتي فتطيرُ ذراعٌ إلى الشُرفاتِ وتكسِرُ آنيةَ الزهرِ أو شاشة التلفزيون

قنبلةٌ تحتَ طاولةٍ أو رصاصٌ على الظهر أو طلقةٌ تحتَ حُنجرتي

هكذا الموتُ، أبسطُ ممّا تظنُ”(57)

في المقطع السابق نرى الشاعر يرصفُ الكلام على السطور بطريقة النثر في محاولة إيهاميّة ترمي إلى إقناع القارئ بتماهي جنسين في هذا النص هما الشعر والقصّة، ويمعن في ذلك بأن يلغي القوافي تماماً، ومعَ أنّ النظمَ والاندفاع العاطفي عموماً قد يتراخيان مع استبداد السردِ؛ فإن درويش ينجو من ذلك في المقبوس السابق ـ وغيره على العموم ـ بغزارةِ صورهِ، وبلغتِهِ المجازيّة ذات الخيال الوثّاب.

على مشارف نهاية القصيدة ـ وقد لعبَ السردُ بمكوّناته المختلفة دوراً كبيراً في تصاعد العمل باتجاه الذروة، ونهضَ الحوار الكثيفُ بالغايات المطلوبة فرسَمَ الشخصيتين المتحاورتين من الداخل بعمق ـ على مشارفِ النهاية إذاً يستبدل الشاعر راويه السابق، الذي استخدم حتى هذه اللحظة ضمير المفرد المتكلّم براوٍ آخر هو راوٍ عليم ببواطن الأمور، غير مشارك في الحدث، ليحملَ عبء سرد تفاصيل الاغتيال…. وهذه لحظةٌ على غايةٍ كبيرة من الأهميّة، إنها تثبت أنّ محمود درويش قاصٌ بامتياز؛ فالراوي الأوّل ما كان بإمكانه أن يصوّر لنا تلك التفاصيل، التي سنقرؤها بعد قليل، زد على ذلك أنه لم يكن موجوداً لحظة الاغتيال، لقد التقى الشهيد في باريس في وقتٍ ما قبلَ الاغتيال، ولو أرادَ أن يسرد التفاصيل الأخيرة لهذهِ الجريمة فسيفعل ذلك ناقلاً الخبر عن شخصيّة وسيطة مما يضعف النهاية.

في المقطع هذا يوظفُ الراوي رسالتين ـ برقيتين مع الإشارة إلى مصدرهما، دون أن يسمح للشخصية أن تعقبّ عليهما أو تشرحهما…. وقد نهضتا بدورٍ غير قليل، فبينتا جانباً جديداً من جوانب شخصيّة الشهيد، وقدمتا معلوماتٍ جديدة عنه، وعن أهله، وعن رفاقه في المنظمة، ولا سيما من تبقى منهم في بيروت:

“….على بابِ مكتبهِ شجرُ الكستناءِ

ومقهىً صغيرٌ

وقوسُ حمامْ.

يرى طالباً عربياً فيرمي عليه السلام

يردُّ بطيئاً

ويشربُ قهوتَهُ

يصعَدُ السلمَ الحجريَّ

سريعاً كعادتِه مثل طيرٍ يبللُه البرقُ.

يدخلُ غرفته. يتأمّلُ أوراقَهُ والخريطةَ والشهداءَ الكثيرين فوقَ الجدارِ

ويقرأ برقيةً من دمشقَ: “تعالَ مع الصيفِ يا ابني”.

وبرقيّةً من بقيّةِ بيروتَ: “شدّد عليكَ الحراسة”.

لم يتساءل لماذا يريدونَ أن يقتلوهُ

ولم يتذكرّ بلاداً تنامُ على صُرّة اللهِ مِثلَ المُسدس،

لكنهم أخبروه

أن صاحبهُ الطالبَ العربيَ يريدُ مقابلةً عاجله

فألقى عليهِ تحيّته الشارده

وردَّ بأقصرَ منها.. وبالطلقةِ القاتِلَه

وعادَ إلى شجر الكستناءِ

ليشربَ قهوتَهُ الباردَه”(58)

لماذا ازدادت حدّة الإيقاع في هذا المقطع على خلافِ سابقه،وجاءت القوافي سريعةً ومتتاليةً ومتنوّعة: (كستناءِ ـ حمامْ ـ سلامْ ـ يقتلوه ـ أخبروه ـ عاجلهْ ـ قاتلهْ ـ شاردهْ ـ كستناءِ ـ باردةْ)؛ ألأنها تقدم حالة الموت؛ وأي موت؟! الموت السريع الغادر… رمياً بالرصاص، الذي لا يكون إيقاعُهُ بطيئاً بأي شكل من الأشكال، وقد استطاع هذا الراوي المحايد أن يبعثَ فينا ألماً مخيفاً سرى كأنه الخدر في أرواحنا، وحقداً مُراً كالعلقم، دون أن يبدو هو متأثراً.. دون أن يبكي أو يولول…الخ، وقد تحقق لـه ذلك حين جعلَ الشهيد ينظرُ قبل ثوانٍ من اغتيالهِ إلى صور الشهداء الكثيرة المعلقة على الجدار، ومن خلال قراءة برقيّة دمشق: “تعالَ مع الصيف يا ابني”، فهناك إذاً أم تنتظر، أم لا يخطر ببالها على الإطلاق أن أخوة السلاح، أو من يفترض بهم أن يكونوا كذلك يصفوّن بعضهم بعضاً…. أمّا ما يثيرُ الحقد، فهو تصرف ذلك القاتل؛ الطالب العربي، الذي يقول الراوي إنه كان صاحب الشهيد، ما يسّر لـه الدخول عليه بكثير من البساطة ـ هو الذي لم يأخذ بنصيحة بيروت، بل لم يتساءل: لماذا يريد أخوانه قتله؟ ـ فقتله دون أدنى ترددٍ، وعادَ يشرب فنجان قهوتهِ في المقهى الصغير قرب باب المكتب وكأن شيئاً لم يكن.

لقد وصلتنا شخصيّة عز الدين قلق، بطل القصيدة ـ القصّة، عن طريق ذكريات الشاعر الخاصة جداً فأصبحت هذه الشخصية على الفور جزءاً من ذكرياتنا نحن؛ إن “الذاكرة هي مفتاح الوصول والاتحاد الذي يقود الناس إلى التعاطف والفن على أنواعه يضيء هذا الوصول ويوسع مداه بكشفه عن التفاصيل الدقيقة لتجارب الآخرين”(59)

الإحالات


1 ـ انظر: إدوار الخرّاط، الكتابة عبر النوعيّة ـ دراسة في ظاهرة القصة القصيدة، دار شرقيّات، القاهرة 1994.

2 ـ د. جابر عصفور، مجلة فصول، المجلد الخامس عشر، العدد الثالث، خريف 1996، القاهرة ، ص 5.

3 ـ د. محمد مندور، محاضرات في الشعر المصري بعد شوقي، معهد الدراسات العربيّة العالية، القاهرة، 1957 ، ص 20.

4 ـ انظر: د. عزيزة مريدن، القصة الشعرية، دار فكر، دمشق 1984، 511 صفحة.

5 ـ انظر: علي جعفر العلاّق، الدلالة المرئية، مجلّة فصول (سابق)، ص (334ـ 345).

6ـ موفق نادر، إنما للشعر قصة، مجلة الكويت، الكويت، العدد 222، 2001، ص (36 ـ 37).

7ـ د. حسين خمري، الظاهرة الشعرية العربية ـ الحضور والغياب، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001.

8ـ محمد رضوان، مملكة الجحيم، دراسة في الشعر العربي المعاصر (الحكاية نموذجاً)، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001، 99 صفحة.

9ـ موفق نادر، سابق، ص 36.

10ـ د. حسين خمري، سابق، ص 65.

11ـ عن علي جعفر العلاق، (سابق) حاتم الصكر، مالا تجدهُ الصفة، المقتربات اللسانية والأسلوبية والشعرية، دار كتابات، بيروت، 1993، ص 72.

12ـ محمد جمال باروت، الحداثة الأولى، اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، دبي 1991، ص 204.

13ـ نقلاً عن د. نضال الصالح، النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة، اتحاد الكتاب العرب 2001، ص 165/ مارتن الاس، نظريات السرد الحديثة، ص 139.

14ـ د. نضال الصالح، سابق، ص 165.

15ـ محمد مهدي الجواهري، الجمهرة، الجزء الثاني، القسم الأوّل، وزارة الثقافة السوريّة دمشق، 1990، ص 277 .

16ـ نفسه، ص 277.

17ـ فخري صالح، سعدي يوسف: شعرية قصيدة التفاصيل، مجلة فصول (سابق)، ص 142.

18ـ د. محمد صابر عبيد، القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والإيقاعية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001، ص 2.

19ـ كمال أبو ديب، في الشعريّة، مؤسسة الأبحاث العربيّة، بيروت 1987،ص 136.

20ـ يرى أدونيس هذا الرأي في حوار معه أجرته مجلة (عيون)، الصادرة في ألمانيا عن دار الجمل 1998، العدد 6، ص (125 ـ 133) وقد عبر أدونيس في هذا اللقاء عن أنه استفاد من تقنيات السينما ـ التي تشمل ضمناً القص والمسرح معاً ـ في عمله الأخير (الكتاب).

21ـ سوزان برنار، قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا، ترجمة: زهير مجيد مغامس، دار المأمون، بغداد 1993، ص 265.

22 ـ 23ـ محمود درويش، أعراس، دار العودة، بيروت، ط3، 1982.

24 ـ 25ـ محمود درويش، حصار لمدائح البحر، الأعمال الكاملة، المجلد 2، دار العودة، ط1، 1994.

26ـ محمود درويش، حصار لمدائح البحر، الأعمال الكاملة، المجلد2، دار العودة ط1، 1994.

27ـ محمود درويش، أعراس، (سابق) ، ص 109.

28ـ نقلاً عن د. نضال الصالح، (سابق)، ص 170.

29ـ محمود درويش، أعراس، (سابق)، ص 110.

30ـ علي جعفر العلاق، مجلة فصول، (سابق) ص 236/ نقلاً عن روبرت شولتز.

31ـ محمود درويش، أعراس، (سابق)، ص 110.

32ـ إنريكي أندرسون إمبرت، القصة القصيرة / النظرية والتقنية، ترجمة: علي إبراهيم علي منوفي، مراجعة: صلاح فضل، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص 77.

33ـ نفسه، ص 77.

34ـ محمود درويش، أعراس (سابق)، ص (112 ـ 113).

35ـ د. محمد صابر عبيد (سابق)، ص 42.

36ـ درويش أعراس(سابق)، ص 112 ـ 113.

37ـ نفسه، ص 113.

38ـ نفسه، 114.

39ـ نفسه، ص (114 ـ 115).

40ـ نفسه، ص (115 ـ 116).

41ـ د. حميد لحميداني، بنية النص السردي. المركز الثقافي العربي، بيروت 1991، ص 45.

42ـ فرانك أوكونور، الصوت المنفرد، ترجمة د. محمود الربيعي، وزارة الثقافة، الجمهورية العربية المتحدة، الهيئة العامة للتأليف والنشر، 1969، ص 20.

43ـ محمود درويش، الأعمال الكاملة، (سابق)، ص 121.

44ـ نفسه، ص 121 ـ 122.

45ـ محمد كامل الخطيب، أعمال ندوة: القصة القصيرة في سوريا أصالتها وتقنياتها السردية، المعهد الفرنسي للشرق الأوسط، قسم الدراسات العربية 2002 دمشق ، ص 87.

46ـ فرانك أوكونور (سابق)، ص 34.

47ـ محمود درويش، الأعمال الكاملة، (سابق) ص 122.

48ـ إنريكي أندرسون إمبرت، (سابق)، ص 325.

49ـ محمود درويش، (سابق) ص 122 ـ 123.

50ـ نفسه، ص 123 ـ 124.

51ـ انظر: جان ريكاردو قضايا الرواية الحديثة، ترجمة: صياح الجهيم، دمشق وزارة الثقافة 1997، ص 269، وانظر: كتابي (قارب الأغنيات والمياه المختالة)، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص (77 ـ 86).

52ـ نفسه، ص 269.

53ـ نفسه، ص 277.

54ـ محمود درويش، (سابق)، ص 125 ـ 126.

55ـ نفسه، ص 127.

56ـ نفسه، ص 129 ـ 130.

57ـ نفسه، ص 131.

58ـ نفس، ص 132.

59ـ م.ل. روزنتال، الشعر والحياة العامة، ترجمة إبراهيم يحيى الشهابي، وزارة الثقافة دمشق، 1983، ص 43 ـ 44.


 (*)_شاعر وباحث ومترجم مولود في السويداء 15/5/1963، له أكثر من ثلاثين كتاباً منوعاً بين الشعر والدراسة والترجمة .

* * *

لاتعطي كل نفسك للشاعر، فسيفجعك بعد مسيرة أغنية قصيرة ، بالنبأ… تمتع بفضاء الحقول المحمية بالحب وحده، وتأمّل عاشقا طيبا كالدمع ” يحب وينسى ” مسكونٌ بمخافة الخيانة، والنامة والصوت الغريب و: “وتوجعه الروح والنجمة الشاردة”

قراءة في قصيدة “الحوار الأخير في باريس”

عبد المنعم الأعسم*

– 1 ـ

عندما يسقط المناضل قتيلَ رصاص ٍ غادر،يمدّ يده عبر ضفة الموت صوب الأشياء التي كان يحبها، تلك هي الوشيـحة التي ستبقى تقاوم الإنطفاء، فيما يكفّ أن يمتلكَ شيئا من نفسه، مقابل أن يكون كلياً ملكنا.
أليست القصيدة هي الأخرى ، تصبح ملكنا عندما تنتقل إلى الضفة الأخرى؟

-2 –

تعال في جـولة على نهـر بردى، وتذكـر ان الشهيـد “عزالديـن قلق ” وقصيـدة محمـود درويـش
“الحوار الأخير …” بدأ الفعل من هنا ، معاً.
وحينما يأخذك عَبَقُ الطين حاورْ النهر كما حاوره الشهيد وصديقه الشاعر :” هل أنت نهر أم امرأة زاهدة ؟ ”
وتلمّسْ طرق العودة في رأسِ من عمّرته المحن واللافتات والشيخوخة .. العودة للنفس الطيبة المسلوبة :
” أبي يحب الرجوع إلى حُجرنام في صدره ”
ضع النخيل على خط القلب ، وقرّبه حدّ استيعابه، واقرأ في الرايات السود، خوف امرأةٍ،
ودعت منذ قليل عزيزها:
“وأختي تظن العراق بعيدا
وتحسب أنّ السواد ليالي ”
حينذاك يمكنك أن تضع الجريمة في أيّ سياقٍ من الصراع، والشهيد في أيّ موقع من القافلة، والقصيدة في أي مكان من خارطة التحريض على الاحتجاج والوعي . ولاتنس أنك تعاملت مع القصيدة ، يُفترضُ بشيء من العسف. وعذرك أن لك حصة فيها ، أو هكذا يُفترض.

– 3 –

لاتعطي كل نفسك للشاعر، فسيفجعك بعد مسيرة أغنية قصيرة ، بالنبأ… تمتع بفضاء
الحقول المحمية بالحب وحده، وتأمّل عاشقا طيبا كالدمع ” يحب وينسى ” مسكونٌ بمخافة الخيانة، والنامة والصوت الغريب و:
” وتوجعه الروح والنجمة الشاردة ”
هو عاشقٌ، لاحدّ لسماحة الروح التي يحملها، يرى في القاتل صورة صديقٍ وفي المُدية
مَلْمَحَ ضفيرة فتاة، أو منديل مودّعٍ وفي الماء زهوراً.
” ويلعب مثل الفراشة حول د مٍ ظنّه زهرة ”
يوطّن النفس أنه ” شجرة في الغروب …ذلك الموكب الذي يتقدم للجريمة ليلا …
ليس كغفلة قبيلة زرقاء اليمامة ولاجهلا بالطرق التي يسلكها الموت نحوه، فالشهيد :
” يشرح انواعه: طلقة في الجبين
فأسقطُ كالنسر،
وقنبلة تحت سيارتي فتطير ذراع إلى الشرفات
وتكسر آنية الزهر أو شاشة التلفزيون
قنبلة تحت طاولة أو رصاص على الظهر ”
ولكنه التقى بمواجهة الموت.

-4 –

انتباه …
سيـضعك الشاعر مبـكرا، في موقـع الشاهـد على بركـةٍ للدمِ ، التي انفـجـرت في رأس
المناضل … وستجفلُ، فالطلقة شهقت عند أذنيك، وستضيع حبّات الحدث متوالية، كما هي في الواقع.
قف مع هذا الحائر بين ال” ربما ” وال” قد ” الذي يتطلع إلى الجهات ذُعرا …
المتردد بين أن ” يفتح الباب ” أو يعود إلى المصعد:
” ربما يقتلون، ولكنه تعب لايخاف ”
و” قد يخجلون من الكلمات التي ستقولها عن رحيل بلافائدة ”
و” في شهر تموز تذهب باريس نحو الجنوب …وقد يذهب القتلة ” .
ثمّ …
إصغ ِ إلى ذلك الصوت الذي تجىء به آلة عازف منفردة بالصدق واللوعة ، تتحدث عنالحبيبة،
التي تنام وحيدة بين ذراعيها … تتطلع إلى انكسار البحر، مشغولة بالحب والفارس البعيد، فيما عشاقها يشحذون خناجرهم.
إنها ” بنلوب ” هوميروس الاسطورية ، التي ظلت تنتظر حبيبها الغائب عبر البحر تقاوم اولئك العشاق الغادرين، املا في لقاء حبيبها.

-5-

من هو القاتل ؟
ماهي ملامحه ؟
ليس هو ذلك ” الطالب العربي ” الذي تباطأ في الرد على تحية الشهيد ، والذي عاد إلى
شجرة الكستناء ليشرب قهوته الباردة ” بعد أن ردّ على التحية بأقصر منها ” وبالطلقة القاتلة ” .
ولاهو العيون المشتراة ، التي لاحقته طويلا حتى ” حفظت ظلّه ” وشاهدته في معرض الملصقات :
” واستدرت
فصافحتهم واحدا واحدا ”
ان القصيدة تقدم كشفا بسيرة القاتل نراها على أرصفة المدن ، كما يصعب أن نطالعها في وجهٍ واحد .
هم جماعة يمارسون القتل رغبة وعطشا إلى الارتواء … يقتلون ، كما كان الشاعر يراهم
” بلا سبب ” ويتباهون بـما يـأتون من فعـل، يضعـون عـاره على صـدورهم، كمـا يضع الجـنـرالات نياشينهم :
” وقد اعترفوا أنهم قتلوني ”
وهم مـزوِّرونَ احتـرفوا رش المساحيـق على الوقائع والحـقائق، ليصبـح القتـل رفافا،
والمجاعة تخمة، والنباح شعرا، والسجون ليست سجونا .
وماذا حدث ؟
ماحدث ان ” عزالدين قلق ” وقف بين تخـوم الرشـوة والرصاصة، فاختـار الرصاصة ،
وأدار الظهر ل منّةِ –الملوك ، ورفض أن يمتثل لحاجب الحَجّاج بأن يقبل ( لقاء رشوة ) خطابا إلى ” اليسار الفرنسي ” أملا في :
” أن السجون على ضفة النهر مستشفيات ”
ويتساءل الشهيد من بين النعش المحمول على الأكتاف
” هل تؤمن الآن انهم يقتلون بلا سبب ” .

-6-

الذين اجتزوا الحلم، واؤلئك الذين يشحذون خناجرهم ودباباتهم، ومثقفوا الاحتلال ” على
ساحل المتوسط ” وخدم البلاط، وحجّاب ” الفئة الزائدة ” يجتمعون معا على نحر الشهيد،يتشابهون
كما هي :
” والاغنيات التي ودّعت نازحا
والأغاني التي استقبلت فاتحا
تتشابه ” .

المصدر : مجلة ” فلسطين الثورة ” العدد 389 – التاريخ : 16 \ 7 \ 1979

(*)_  كاتب وناقد عراقي

إقرأ أيضا

Leave a Comment