موقع الشهيد عز الدين قلق

الكلمة والبندقية

بقلم محجوب عمر* | الجميع كانوا يتوقعون لعزالدين ماوقع، حتى عزالدين نفسه كتب ماسيحدث في صورتين على ورق، بعث بالأولى واحتفظ بالثانية ليمهرها بدمه ساعة اغتالوه. كان الجميع يتوقعون، ولكن وقع القتل كان مريعا، كأنهم كانوا يتوقعون أن يفلت عزالدين هذه المرّة أيضا ، بعد أن أفلت لسبع سنوات من كل استخبارات الصهاينة ومحاولاتها. ولكن ” عز” لم يفلت هذه المرة. استطاعت ” الموساد ” أن تصل إليه دون أن تتقدم نحوه. حاسة شمّه التي لاتخطىء نحو الصهاينة لم ولم يكن من الممكن أن تنقذه هذه المرّة.

باريس – 3 \8 \1978 – وكالات الأنباء:

“لقي عزالدين القلق رئييس بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في باريس مصرعه في الساعة الحادية عشرة والنصف صباح اليوم بتوقيت باريس في مكتبه بالطابق الثالث من مبنى الجامعة العربية في باريس “

هكذا ورد النبأ من باريس، وأذيع من الإذاعات على الفور، ومضت ساعات طويلة قبل أن تصدر صحف الصباح، تحمل النبأ ومايلزم من البيانات والتعليقات والصور والتفاصيل. خلال هذه الساعات كان بسطاء الناس، الذين يعرفون عز والذين لايعرفونه، يترحمون عليه ثمّ يتساءلون عن مصير ” القتلة ” الذين نالوه … أخيرا.

وكأن الأمر لم يكن مفاجأة لاحد. وكأنّ كل الألم كان، لأن الوقع غير متوقع. فالجميع ممن يتتبع مايجري على أرض العرب وساحة قضيتهم فلسطين، الجميع كانوا يتوقعون لعزالدين ماوقع، حتى عزالدين نفسه كتب ماسيحدث في صورتين على ورق، بعث بالأولى واحتفظ بالثانية ليمهرها بدمه ساعة اغتالوه،  الجميع كان يعرف، الجميع سمع وقرأ، وربما شارك بالحضور والكلام، أو بالنشر والتوزيع والتأكيد، أو بالصمت استهانة واستخفافا أو خوفا وارتجافا، أو استحياء أن ينطق بما لايرضي الدافعين أو اكتفاء بموقف المتفرجين.

لم يكن الأمر مفاجأة، والجميع كان يعرف. فقد قرأ الناس قوائم الإتهام الموجهة إلى عزالدين والتي طالبت بقتله، بل أعلنت الحكم بأنه سيقتل ” سيفقد رأسه”، كما ورد في نص الكلام. وورد التأكيد في مقدمات الادعاء وملحقات الحكم  ” اتصل بالصهاينة ” رأى أن ” السلطة على استعداد للاعتراف باسرائيل ” . والسلطة المقصودة هي ” اليمين الرجعي ” المسيطر على قيادة م.ت.ف.كما يدعون .

كان الجميع يتوقعون، ولكن وقع القتل كان مريعا، كأنهم كانوا يتوقعون أن يفلت عزالدين هذه المرّة أيضا ، بعد أن أفلت لسبع سنوات من كل استخبارات الصهاينة ومحاولاتها. ولكن ” عز” لم يفلت هذه المرة. استطاعت ” الموساد ” أن تصل إليه دون أن تتقدم نحوه. حاسة شمّه التي لاتخطىء نحو الصهاينة لم ولم يكن من الممكن أن تنقذه هذه المرّة.

وكعادة المتفرجين، وقد أفسد التلفزيون الأذواق وقصر الأنفاس، سارع الذين سمعوا بالسؤال : ومن المجرمون ؟؟. ثمّ خابت آمالهم مرة أخرى عندما تبين أن الذين أطلقوا الرصاص صغار ومعبأون ( لكي لانقول مأجورون ). وفي الصباح، ومع صدور الصحائف المطبوعة التي تباع والتي تستباح، خابت اللهفة وباخت الحبكة عندما فوجىء القراء والمستمعون والمتفرجون بل والمعنيون بأن ” الجميع ” أصدقاء وغير أصدقاء، يستنكرون ويدينون وينفون ويتعهدون ويعزون، البعض يبكي والبعض يصيح، والبعض يهز الرأس حكمة ويقول ” ألم أقل لكم ؟! “حتى قادة نظام العراق أنكروا وأقسموا، بل قالوا صراحة ” إننا لو كنا نريد لفعلنا ذلك بواسطة مناضلينا …أمّا الذين قتلوه فهم … فلسطينيون “.

وتفكر بسطاء الناس في جلساتهم وتساءلوا : من المستفيد ؟. وكانت الإجابة بسيطة وواضحة: العدو الصهيوني. إذن، فالقتلة هم الصهاينة. قتلة عزالدين القلق هم الصهاينة، ومهما تكن الوسيلة التي لجأوا بها واليد التي استعملوها، والكلمات التي مهدوا بها، فإن القتلة هم الصهاينة.

وعندما يقول بسطاء الناس أن القتلة هم الصهاينة فلا بد أن هذا صحيح.

ولكن عزالدين قلق ” قُتل ” وهو في مقر منظمة التحرير الفلسطينية، الذي هو في قلب مبنى الجامعة العربية، والتطابق كامل بين المكان والسياسة. معنى ذلك أن القتلة الصهاينة قد استطاعوا التسلل داخل الغرفة المغلقة، التي هي داخل المبنى الكبير. كيف حدث ذلك؟ هل كان الحراس نياما؟ هل انشغل الحراس باللعب أو بالشجار أو بحراسة غير المبنى وغير المكان؟ هل كانت بنادقهم بعيدة عنهم وقت جاءوا؟ أم هل خدعهم مظهر القتلة فظنوهم عربا إخوة ولم يكشفوا فيهم الصهيوني المتخفي المتعطش لدماء عز؟…

إن إلقاء مسؤولية القتل الجنائية والسياسية على الصهاينة وعملائهم لاتعفي الجميع منا من مسؤولية ” الغفلة” و” التهاون ” و ” تسهيل المهمة القذرة “. وسواء كان ذلك عن حسن نية أو عن سوء قصد، فإن الدم الذي سال هو دم.

واقعة قصير جدا

في خريف 1971 التقى-  وكان قد وصل لتوه من جبال الاردن-  ببعض أهل الثقافة. قالت: ” سمعنا عنك، وقال : ” عفوا “.  واستمرت تحكي، فأدار رأسه قبل أن يُدار بمعسول الكلام ثم سمعها تقول: ” هناك عناصر واعية في “فتح ” تعرف أن في القيادة عملاء. التفت مدهوشا وقال: ” مستحيل “. ابتسمت واثقة عارفة وقالت: ” لماذا “. إنها حقيقة مشجعة “. قال: ” ولكن فتح تعطي كل مقاتل فيها بندقية و120 طلقة.فإن عرف أحدهم مكان العميل فسيطلق النار عليه “.. خالط وجهها مزيج من الفزع والاستنكار: ” أتقتل لخلاف في الرأي؟ ” قال: – ” لا ، ولكن الخلاف في الرأي شيء، والعمالة شيء آخر. واستمرت تمضغ علكتها ( لبانها) والكلام، تفسرلماذا هو حاد لهذه الدرجة، وأن ذلك لابد انعكاس للجبل. لم يُجب فقد كان يعرف أن الجبل لاشأن له وأن الفضل هو للبندقية، وأن الحديث عنها، هو كالحديث بها يتطلب تمييز الهدف والتصويب الدقيق .

في 1965- 1966 اتُهمت حركة ” فتح ” بأنها ” عميلة” لحلف ” السنتو ” وأنها بحربها ضد العدو الصهيوني تستفزه وتعرّض أمن ” الأنظمة التقدمية ” للخطر. ولابد وأن أبناء ” فتح ” قد تعجبوا في ذلك الوقت من هذا الإتهام وتعجبوا أكثر من أصحابه. فأصحاب هذا الاتهام هم الذين ملأوا الدنيا ” كتابة ” و” كلاما ” عن ضرورة محاربة الامبريالية والاستعمار الجديد والعنصرية والصهيونية وكافة أشكال التفرقة والتمييز. وعن فلسطين وضرورة تحريرها وقدسية معركتها …الخ. ومع ذلك، فعندما تقدّم نفر من العرب الفلسطينيين ونفّذوا بعض هذا الكلام وحولوه إلى فعل، انتفضت نفس الأقلام وتذفقت بالاتهام تلو الاتهام من حلف السنتو إلى عملاء الصين، وكانت أخف الاتهامات أنهم من المغامرين. وتلقفت الانظمة هذه ” التنظيرات ” أو ربما هي شجعتها وروجتها، وترجمتها إلى أفعال السجن والاعتقال بل والقتل.

أمّا “فتح ”  فقد كانت قد اختارت لنفسها خطة لتصل إلى فلسطين، لخّصتها في شعار بسيط واضح وعميق هو” البنادق كل البنادق ضد العدو الصهيوني “. لذا كان ردها على هذه الحملة ” الكلامية ” كما كان ردها على ترجمتها الفعلية، المزيد من ” البنادق الموجهة ضد العدو الصهيوني “. كانت ” فتح ” تثق ولاتزال، أن ممارسة هذا الشعار \ الخطة هو السبيل لتعبئة الجهود، ورص الصفوف، وتوحيد القوى، وتصحيح المسار، ومواجهة التآمر وكشف العملاء والمزايدين، وخلق الانسان العربي الجديد، وتحرير فلسطين ووحدة العرب .

وكل هذا صحيح، ولابديل لهذا الشعار \ الخطة ولاغنى عنه، وستظل فتح تقاتل داخل فلسطين هجوما على الدوام. وخارج فلسطين دفاعا على الدوام، ولقد انتصر هذا الشعار | الخطة في الممارسة، وسقطت أوهام كثيرة وانطوت صفحة أفكار وتنظيمات ونظم، كانت تتبارى يوما بالكلمات والبرامج والانقلابات. ولكن المعركة لاتزال مستمرة. فلسطين لم تزل بعد محتلة. والواقع العربي مازال مجزأ يحمل كل أوزار الماضي وأمراض الحاضر، والتقدم نحو فلسطين لايعني بحال أن تقل العقبات، بل يعني في كل الأحوال أن يتكاتف كل الذين سيخسرون ويهزمون وأن يشتد سعار الصهاينة والمستعمرين ضد الثوار .

فلئن كان الشعار | الخطة قد استطاع انتزاع المبادرة من العدو الصهيوني، ولئن كان الشعار| الخطة قد استطاع أن يصون استقلال البندقية في وجه الإحتواء وفرض الوصاية، فإن العدو لن يستسلم بل سيحاول أن يتسلل ويضرب من الداخل مستغلا ماتبقى من القديم وما لم ينجز من الجديد.والقديم موروث ومصدر، وما لم ينجز من الجديد مسؤولية الأحياء منّا.

وأهم مالم يُنجز من الجديد هو ” الأفكار”. ولم تكن “فتح ” تتوهم أبدا أنها إذا بدأت القتال ضد العدو الصهيوني فإن الأفكارالاخرى القديمة ستنهار. ولكنها اختارت أن تصب جهودها في حقل ” الفعل ” بأمل أن يثمر هذا الحقل ” أفكاره ” وتتعمق جذورها بدماء الشهداء.

المشكلة مع ” الأفكار” هي أنها تعيش حتى بعد زوال أسبابها ومصادرها. وهناك أفكار تعشعش في العقول منذ آلاف السنين رغم زوال الظروف التي اوجدتها. والمشكلة الأكبر في حالتنا هذه، هي أن الأفكار الخاطئة القديمة ماتزال تجد جذورا فعلية على الساحة الفلسطينية والساحة العربية بشكل عام . وفي عالم الاتصالات الفورية الحديث والقوى الاجنبية الطامعة والعدو الماكر الخبيث، تجد الأفكار الخاطئة القديمة مجالا ومصدرا وملاذا ومروجا ومشجعا ومستغلا ومستفيدا .

ولا يعفينا هذا كله من أن نقر بمسؤوليتنا جميعا. إننا لم نناضل بالدرجة الكافية ضد الأفكار القديمة، بل ربما سمح بعضنا لنفسه دون أن يعي، باللعب بها ومعها ، نزوعا مرضيا ” للقديم ” واستجابة للزوميات الأوضاع الاجتماعية، التي يتمتع بها المتعلمون مع الأفكار والكلمات في بلادنا الفقيرة الأميّة .

بسطاء الناس في بلادنا يعرفون قيمة البندقية ويعرفون أن من يملك بندقية يجب أن يملك لسانه معها وإلاّ صارأضحوكة للآخرين. يعرفون أن للبندقية تقاليدها وحقوقها وواجباتها ومسلكيتها. يعرفون أن البندقية في يد ” الأطفال” تقتل وفي يد العقلاء تصون. يعرفون أن البندقية في يد الشعب حرية وفي يد السلطة قمع . يعرفون أن البندقية في يد الثوار ثورة وفي يد غيرهم إرهاب في أحسن الأحوال والنيات. فأين أصحاب الكلام وادعياء المعرفة والنظريات من كل هذا؟.

لقد تعوّد البعض قبل ” البندقية ” أن يجمع الأعداء في سلة واحدة ويرجمها بالكلمات. وما أسهل أن تصف الأعداء جميعا في سطر واحد،أو فقرة واحدة، في مقال أوكتاب ثُم تنهال عليهم بالنعوت واللعنات، ولكن البندقية لاتستطيع، فحاملها لايغفل من هم الأعداء ولكنه مضطر، لكون البندقية لايمكن أن تطلق في كل اتجاه، لأن يختارالأول من بينهم لكي يركز عليه النيران. هل كان عزالدين القلق هو ” الأول ” من بين أعداء الذين أمروا بالقتل وحرّضوا عليه، بل الذين نفّذوه ؟!! ان اعتماد البندقية اسلوبا للنضال يحتم تضييق” جبهة الأعداء ” بلا جدال، فهل كان قتل عزالدين سبيلا إلى ذلك؟ وهل كان عزالدين حقا من الأعداء؟!! إن البعض في قديم الزمان وحديثه تعوّد على ” حرفة الكلام “، والكلام كما يقول بسطاء الناس يزداد كلما مضغته ويكبر كلما ابتل بريق الفم فما بالكم ببريق الدنانير؟ والكلمة تجريد، والإنتقال من التجريد إلى التجريد سهل، فإن كنت مخالف في الرأي فأنت ” مضَللٌ ” وإن كنت مضللا فأنت ” منحرف ” وإن كنت منحرفا فأنت ” انتهازي ” وإن كنت ” انتهازيا ” فأنت ” تصب الحَبّ في طاحونة الأعداء “، وإن كنت ”  تصب  الحب في طاحونة الأعداء ” فأنت ” جاسوس ” أو ” عميل “. وللتبسيط، إن كنت مخالفا في الرأي فأنت ” عميل ” وهكذا إن كنت عميلا فأنت عدو وأخطر من الأعداء أنفسهم. والمقياس في كل ذلك هي” ذات ” الذي سيصدرعليك الحكم، فيدينك أو يضمك إلى أتباعه.

ولكن اعتماد ” البندقية ” شعارا وخطة لايتحمل هذه الرفاهية الفكرية والاستمتاع اللفظي. فالرجل، الذي يحمل البندقية يعرف أن عليه ” إن قال فعل ” وإن أدان نفّذ، وأن الطلقة إن خرجت من بندقيتها هي كالكلمة الصادقة، لاتعود ثانية. وأن الموتى لايقومون في هذا العصر وإن قرأنا على قبورهم آلاف صفحات النقد الذاتي. لذا لا يتسلى الذين يحملون البندقية بالكلام، ولايسرعون بالأحكام، ولا يخلطون بين العدو والصديق، ويحترمون القلم والكلمة كما يحترمون البندقية فيحافظون عليها نظيفة لاتشوبها شائبة، ويعرفون أن هناك فرقا كبيرا بين البندقية وبين عصا الراعي.

والعجيب أن الذين يرمون مخالفيهم بالرأي بتهم العمالة والجاسوسية والاستسلام واليمينية والرجعية، يفتحون بذلك باب رمايتهم بالرصاص. ثمّ يطالبون بأن تسود في الساحات علاقات ” الحوار الديمقراطي “. بل وصل الأمر ببعضهم بأن عزالدين القلق وعدنان حماد وشهداء الباكستان ومن قبلهم علي ياسين ومن قبله سعيد حمامي، إنما هم ضحايا الخروج عن ” الحوار الديمقراطي “، كأن الأخوة قتلوا لأنهم اعترضوا على مناقشة أو انسحبوا من جلسة أو علا صوتهم في النقاش، أوهم أقلية لم تخضع لقرار الأغلبية كما هو مفهوم الديمقراطية. إن” الديمقراطية ” سلطة.  ذلك ماينساه بعض المطالبين بها، وترجمتها كما يعرفون قطعا ” سلطة الشعب ”  وهي في الممارسة تعني ” خضوع الأقلية للأغلبية وخضوع المستوى الأدنى للمستوى الأعلى ” أي هي الالتزام .. والأمر الذي لاشك فيه أن الأخوة الذين قتلوا في باريس ولندن وباكستان والكويت إنما قتلوا لأنهم ملتزمون،أي أنهم يمارسون بالفعل قواعد الديمقراطية وهو ماأغضب قطعا، الذين يهمهم أن تسود الساحة الفلسطينية الفوضى الليبرالية، رغبة في اغتنام الفرص، التي تتولد عنها لفرض وصاية أو لحرف اتجاه البنادق، ومن جانب العدو الصهيوني: لإثارة الإقتتال .

إن الإلتزام بالبندقية خطة وشعارا لتحرير فلسطين قد هدى ” فتح ” منذ الأيام الأولى إلى قاعدة الحوار الديمقراطي قانونا للعلاقات داخلها، وفيما بينها وبين الفصائل الأخرى، ذلك أن الذين هم جادون في حمل البندقية هم بالضرورة جادون في البحث عن سبل توحيد اتجاهها. ويكفي أن يراجع نفسه من يعرف الأخوة الذين قتلوا، ليتأكد أنهم – وهم جميعا أبناء فتح – لم يكونوا نسخا طبق الأصل من أحد ولا من بعضهم البعض، إلاّ أنهم جميعا التزموا بأن يوجهوا بنادقهم ضد العدو الصهيوني، وأن يقدموا فلسطين على كل شيء آخر. هذه هي مبادىء “فتح ” التي فرضت نفسها على اسلوب الحوار والتعامل. لذا ف “فتح”  تعلن دائما ” أن البندقية التي تضاف إلى الألف بندقية هي قوة “، وكثيرا ماتلام” فتح ” بالذات من جانب الذين يتكلمون هذه الأيام عن الحوار الديمقراطي، بسبب ديمقراطيتها ” الزائدة عن الحد ” حسب قولهم .

المشكلة هنا أن بعض الذين حملوا البنادق بعد “فتح ” وربما من ” فتح ” لم يدركوا بعد أنّ ” البندقية ” شأنها شأن أي أداة تخلق علاقاتها، وأنهابالضرورة تفرض الديمقراطية بالمعنى المشار إليه آنفا، وترفض الليبرالية بالشكل الذي يمارسون .

” البندقية ” تحتّم وحدة الموقف، أي وحدة التصرف العملي، وهذه لاتتحقق إلاّ بالإلتزام والإنضباط العالي. وأن أحدا على الساحة الفلسطينية لم يُحاسَب أو يُمس بسبب رأيه، ولكن التصرف العملي شيء، وإبداء الآراء شيء آخر. قد تتحمل الأوراق خلافات الرأي، وقد يطول الحوار حولها، ولكن أن تختلف البنادق لتطلق كل منها في اتجاه، وفي أي وقت يشاء حاملها، فهو أمر غير معقول على الساحة الواحدة، حتى ولو كانت ساحة للصيد لا للقتال .

وعندما يسلّم الجميع بأن ” البندقية ” هي بندقية واعية، أي هي ليست للصيد أو التسلية وإنما لتنفيذ خطة سياسية، تكون وحدة التصرف العملي أولى من أي حالة أخرى، وتكون السبل لضمانة وحدة الموقف هذه هي من قواعد الإنضباط التي ينشأ عليها المقاتلون، والتي هي بالمناسبة من تراث بسطاء الناس أيضا .

ثمّ كيف يمكن تصورإجراء حوار ديمقراطي، أي ” حوار سينتهي بالتزام” بين من يسوق الإتهامات بالاستسلام والرجعية واليمينية والخيانة والعمالة، إلى آخر هذا القاموس، وبين الذين يتهمهم. إن ” الحوار الديمقراطي ” هو شكل الصراع، الذي ينطلق من وحدة ليؤدي إلى مزيد من الوحدة. ( أليس القانون كما يكررون هو: وحدة – صراع – وحدة ) فأي وحدة هذه التي بين الرجعيين والثوار؟ وأي حوار يمكن أن يستمر والمقاتلون يصنفون إلى يمين ويسار؟ إن الرجل البسيط لايرمي زوجته بالزنا ثمّ  لايطلقها، وهو إن حمل البندقية فإنه بالتأكيد لايفكر في اتهامها بالزنى قبل أن يضع إصبعه على الزناد. فما بالكم والإتهامات هنا بالخيانة والرجعية واليمينية والاستسلام والإنبطاح والتآمر …الخ!! على الذي يعلن أنه ملتزم بالحوار الديمقراطي أن يعلن أولا عن الحد الأدنى من الأهداف والسياسات،التي يتفق فيها مع الذين يريد التحاور معهم، فإن لم يفعل وأسقطهم من حساباته كقوى حليفة على الأقل، فقد أضافهم إلى ” أعدائه” ولا حوار بين المتعادين ولا التزام، ولامكان هنا للتسلي بمتعة توجيه الإتهامات اللفظية فالساحة ملأى بالبنادق، وبسطاء الناس لايفرقون بين كلمتهم وبين بندقيتهم، والعدو الصهيوني متربص،  يتلهف لسماع ” تهمة ” ليقوم هو وعملاؤه ” بالتنفيذ “، وليس للناس على ظهر الأرض حق الحكم على النيات .

ثمّ إن الأمر في النهاية كما هو في البداية، لايرجع إلى القاعدة التنظيمية لهذه العلاقة أو تلك، وإنما يرجع إلى ” السياسة “: فالتنظيم أداة السياسة وانعكاسها. لذا فإن ” فتح ” التي اختارت أن توجه البنادق، كل البنادق نحو العدو الصهيوني، قدمت هذا الشعار \ الخطة إطارا وحدّا أدنى لكل حوار في داخلها، وفيما بينها وبين الفصائل الأخرى، ولمن يرى لنفسه عدوا الآن غير العدو الصهيوني، فله الحق، ولكن عليه ألاّ يحاول سوق ” فتح ” بالقوة والإغتيالات إلى طريقه، لأن ذلك على الأقل لن يجعله يحارب عدوه الذي اختاره، إلا إذا اعتبر ” فتح “عدوه الأول، عندئذ سيتحالف مع العدو الصهيوني، الذي اتخذ قرارا عينيا  بتصفية ” فتح ” ورجالها ومقاتليها .

 أمّا الذين يجمعهم حد أدنى من الاتفاق، فإن حوارهم سيكون من أجل العثور على مزيد من الإتفاق، ومن أجل تطوير أشكال الوحدة القائمة، سيكون تنافسا في التضحية من أجل القضية، في تصعيد النضال ضد العدو الصهيوني، سيكون صراعا بين الإجتهادات اليومية في النضال من أجل فلسطين، وعلى الذي يقدم نفسه باعتباره الأكثر وعيا والأكثر ثورية أن يثبت ذلك بالفعل لا بالألفاظ، بالالتزام لا بالليبرالية .

وليس أحب على قلب العدو الصهيوني، وعلى قلب القوى الطامعة في الوصاية على الثورة الفلسطينية، من أن تشيع الليبرالية بدلا من الديمقراطية، فهي فرصة لهم لممارسة القتل والإغتيال وإثارة الإقتتال،ومن ثمّ التصفية أو السيطرة، ثمّ يجدون في فوضى الأقوال وفي كل الأحوال الفرصة لاتهام المتصارعين بما يفعلون هم وعملاءؤهم .

على من لم تقنعه هذه الكلمات والوقائع أن يفكر قليلا: من الذي استفاد من اتهام سعيد حمامي وعلي ناصر ياسين وعزالدين القلق، واستباحة دمهم وتخوينهم علنا وبكافة وسائل النشرقبل أن يقتلوا؟.

ولقد آن الأوان وربما قد تأخر، أن نقر جميعا بالفجوة بين البندقية وبين واقع الأفكار حولها .

هذه البندقية المنتصرة، ماتزال أفكارها تعاني من حصار الأفكار القديمة، ومن هجمات الأفكار المصدرة إلينا، ومن أمراض ” الليبرالية “، التي تريد لها أن تندثر بالفعل طالما هي تريد لها أن تتفرق .

وتلك هي مسؤوليتنا، أن ندافع عن فكر ” البندقية “، أن نربط بين الكلمة وبينها، ألاّ نستهين بالكلمات فنستهين بذلك بحياة المناضلين، ولاينفع الندم .

أفليس غريبا أن بعض أهل ” الكلمة ” و”الفكر ” (هكذا يقدمون أنفسهم ) يقيمون الدنيا ولايقعدونها احتجاجا على مظاهر إطلاق النار في الهواء، ثمّ لايرون غرابة في إطلاق الإتهامات القاتلة، التي يُرمى بها الثوار المخلصون؟! لو أنّ عُشر الأصوات التي ترتفع محتجة على المسلكيات اليومية الخاطئة قد ارتفعت احتجاجا وإدانة يوم مقتل سعيد حمامي، لما قتل علي ناصر ياسين، ولو كانت ربع مساحات الورق التي خصصت للهجوم على ” فتح “واتهامها باليمينية والرجعية والاستسلام قد خصصت لفضح جريمة اغتيال علي ناصر ياسين لما قتل عزالدين القلق .

إن المواقف الواضحة والآراء الصحيحة، والأفكار المحددة هي، التي تحمي البندقية من أن يستغلها الأعداء. وفي عالم اليوم المعقد والمتشابك لن يكون سهلا ولا صحيحا على أي حال، اتباع الأساليب البوليسية للوصول إلى حقائق الأحداث. إن أحدا لايعرف حتى الآن من الذي قتل كينيدي؟ ولكن الجميع يعرف من الذي استفاد من قتله.

وليتذكر كل الذين يقدمون أنفسهم باعتبارهم ” الأوعى ” و ” الأكثر ثورية ” أنهم إذا لم يثبتوا ذلك بالفعل فإنهم لن يكونوا إلاّ ” مزاودين ” فإن أطلقوا الإتهامات أو النار على الآخرين، الذين يتهمونهم بالعجز أو بالتخلف أو باليمينية أو بالرجعية أو بالإستسلام إلى العدو، أو إلى آخر مافي قاموسهم، فإنهم سيفقدون مبرر وجودهم، إذا فقدوا تمييز أعدائهم بعد أن يكونوا قد فقدوا اتجاههم. وليتعلموا من “فتح ” التي لم تهاجم أحدا عندما انطلقت، بل حرصت على توجيه بنادقها نحو العدو الذي حددته ألا وهو العدو الصهيوني .

إن مقياس الثورة عند العرب اليوم ليس هو قدر مايتردد من ألفاظ، وإنما هو قدر مايتوجه من بنادق ضد العدو الصهيوني، كذلك مقياس التقدمية ،كذلك مقياس الصواب والخطأ .

وتبقى مسؤولية المشتغلين بالكلام والأفكار أن لايهادنوا أو يتهاونوا مع الأفكار الخاطئة، وأن يكونوا على حذر من الخلط بين الليبرالية ( أي الإنفلات وعدم الإنضباط ) وبين الديمقراطية ( أي الإلتزام والوحدة ).

* * *

واقعة قصيرة جدا … أخرى

في عام 1966 أو 1967 حضر إلى القاهرة المرحوم علي صالح السعدي، انقسم موقف ” التقدميين ” وقتذاك ،البعض استقبله والبعض رفض استقباله لأنه شارك، بل دعا إلى قتل عشرة آلاف شيوعي في بغداد عام 1963. وقال هو في مقال منشورأنه نقد نفسه نقدا ذاتيا،وأنه أسس حزبا أسماه ” حزب البروليتاريا الثوري”، ويومها نشرت روز اليوسف مقالا للدكتور ثروت عكاشة قال فيه: ولكن النقد الذاتي لايمحو الدماء عن الأيدي.

والنقد الذاتي لايقيم الموتى أيضا،ولكنه على أية حال قد يمنع مزيدا من القتل.


(*)_محجوب عمر، طبيب، ولد عام 1932في بني سويف  في مصر – توفي في القاهرة عام 2012 م.  وهو اسم حركي استخدمه خلال نضاله في صفوف حركة (فتح) ، أمّا اسمه الحقيقي فهو رؤوف نظمي ميخائيل عبد الملك صليب .

إقرأ أيضا

Leave a Comment