بقلم محمود درويش | كنّا نتكلم معه بلا دَهَش، كأنّه مسافر عادي قادم من باريس. كان يواصل حضوره بيننا ويشاركنا عملية الانسلاخ الجماعي الكبير عن هذا المكان، نسينا أنه غادرنا إلى الأبد منذ عشر سنين.
الزمان : بيروت، المكان: آب
هبّت رياح الجنة. فهل سيقول الحقيقة. هل سيقول الحقيقة ؟
لن يقول ..
سألت “م”: أي بحر سنسلك ؟
قال: البحر الأبيض، ثمّ البحر الأحمر.
قلت لماذا أنت بعيد. هل كنت في منامي أمس؟
قال: لاأعرف. أيّ منام؟
قلت : كنـّا هنا.الغرفة ذاتها. الكلام نفسه. الصنم إياه. والغارات هي الغارات، دخل حارس البناية ليبلغنا أنّ شخصا غريبا يدّعي أنه صديق قديم، قد جاء لزيارتكم. فوضَعَ كلّ رجُل ٍ يده على مسدسه لاستقبال ما يسفر عنه الباب من غموض. وخبّأنا الصنم في الحمّام. ولكن الزائر كان عز الديـن قلـق بتوتره الضاحك . سألناه : كيف وصلت ؟ قال : كما وصلتم وصلت. لم يتغيّر فيه شيء. بعيد وأليف. ولكنه كان ينظر إليك بريبة مَنْ يقابل غريبا لايعرفه.
قلنا له اطمئن يا عز فإن “م” من غرفة العمليات ..
كنّا نتكلم معه بلا دَهَش ، كأنّه مسافر عادي قادم من باريس. كان يواصل حضوره بيننا ويشاركنا عملية الانسلاخ الجماعي الكبير عن هذا المكان ،نسينا أنه غادرنا إلى الأبد منذ عشر سنين، وأنّ الموتى لا يزورون الأحياء ولكن عزالدين بيننا بلا جلبة ولا فزع.
سألته عن أحواله هناك في الآخرة. قال إنها عادية ولا جديد تحت الشمس. قلت: هل هناك شمس؟ قال: نعم هناك شمس. سألته عن المناخ فقال إنه حار و رطب لأن المناخ في آب حار و رطب. سألتـه عمّأ إذا كانـوا هنـــاك يعرفون أخبارنا وما يحدث في هذا الحصار؟ فقال إنهم يتابعون الأخبار ساعة بساعة، على شاشة التلفزيون. ويتألمون من الغيظ لعجزهم عن تقديم أي عون لنا. سألته عمّن وصل إليهم منـّا، لعلـّهم قدموا لهم شهادة حيـّة عمّا يجري. قال : لم يصل إلينا أحد. قلت : وقد نسفوا مقبرة الشهداء، فهل نجا أحد من الشهـــداء وجاء إليـكم؟ قـال: لم نقابل أحداً منـهم، وسألته: أين تقييـم؟ في الجنـة أم فــي النــار؟ قال مستغربا: ماذا تعني؟ قلت من أين جئت : من الجنـة أم مـن جهنـّم؟ قال : جئت من هناك.. من الآخرة.
حدّقت فيه ملياً لأتأكد من آثار عنوانه على جسده، فوجدته طبيعيا وعاديا، كما غادرنا، لا آثار للجحيم ولا علامات للنعيم. أهذا كـُلّ شيء يا عز الدين؟ هل تزوجت؟ قال : لم أجدها بعد. من لاحظ ّ له في الدنيا لا نصيب له في الآخرة. سألت وكيف تقضي وقتك هناك؟ قال: كالمعتاد.. من المكتب إلى غرفتي في الحي الجامعي، ومن قاعات المحاضرات إلى بيوت الطلبة. وأتذكرك حين أسافر في القطار من باريس واقفا، وحين أطلّ على منزل بيكاسو وعنزته الشهيرة، وحين أدخل المطعم ذا الجدران الممتلئة بجميع أشكال الخبز، وأتذكر الطلبة التونسيين الذين صاحوا بنا في عيد الثورة: سحقا ، سحقا بالأقدام لدعاة الاستسلام، التفتنا إلى “ب” فلم نجده .. كان مشغولا بحماية الصنم من القصف..
قلت لعز: أما زلنا في مرحلة،التكوّن في حاجة إلى الأوهام لنتكوّن؟
قال: يبدو ذلك ..
قلت: ومازلنا في مرحلة التكوّن في حاجة إلى أصنام يعبُدها بحثنا عن المثال؟
قال: يبدو ذلك ..
قلت : ومازلنا ، في مرحلة سباق الدم مع الفكرة، وسباق الفكرة مع الإطار، في حاجة إلى حبر فاسد، وإلى أدب مبتذل، لنقول أننا مؤهلون؟
قال : يبدو ذلك ..
قلت : إذا كان الجواب عن ذلك هو يبدو ذلك، فلماذا نخرج من بيروت إلى الفضيحة.. ودواليك؟
قال :لا أعرف.
قلت : كيف تفكرون هناك؟
قال : مثلكم كما تفكرون هنا.
قلت : يا عز الدين، ماذا تفعل هنا. ألم تــُقتل؟ ألم أكتب فيك رثاء. ألم نمش في جنازتك في دمشق. هل أنت حيّ أم ميّت؟
قال : مثلكم !
قلت ، يا عز الدين، لنفترض أنني قلت لك أننا أحياء، فهل أنت ميّت؟
قال : مثلكم.
قلت : يا عز الدين، لنفترض أنني قلت لك أننا موتى، فهل أنت حي؟
قال : مثلكم.
صحت : يا عز الدين ، ماذا تريد مني؟
قال : لا شيء.
قلت: إذن دعني وشأني.
قال: آن لي أن أذهب
قلت: إلى أين؟
قال: من حيث جئت.
قلت : إبق معنا قليلا.. سنخرج معا.
قال : انتهت إجازتي، وعليّ أن أعود.
قلت: من أين جئت ؟
قال: لاأعرف ..
صافحنا واحدا واحدا. ولكنه خصّك يا “م” بنظرة خاصة سحبتك منّا قليلا. عانقناه على الباب .. حيث تلاشى كخاطرة شاردة. نظرت إلى الدَرَج فلم أجده. نظرت إلى الشارع فلم أجده. اختلط بأمطار القذائف. لم أجده في أي مكان. نظرت إلى شظايا الصواريخ فلم أجد أحداً.. لم أجد أحداً.. عزالدين اختفى.
قلت لهم : هل كان مضطراً للعودة؟
قالوا : من هو الذي كان مضطراً للعودة؟
قلت : عزالدين .
قالوا باستهجان: من هو عزالدين؟
صرخت : الرجل الذي كان معنا. هنا. الآن. ومازالت خطواته تدق الدرج.
نظروا إليّ كما ينظرون إلى ممسوس ٍ. أشرت إلى مقعده المسكون بطيفه. هنا. هنا.. كنتم تتحدثون إليه. كنتم تعانقونه. لم يصدقوني. قدّموا لي كأسا من الماء وفنجان قهوة..
هل يحلم المرء وهو جالس مع الآخرين؟
هل يحلم المرء وهو يحاور؟
ليست بيروت هي المدينة الوحيدة التي لانستطيع أن نضرب فيها موعدا. في باريس أيضا، تأخّر عز الدين قلق عن الموعد الأخير، فلم يأت إلى مطعم الخبز الطازج، ولم يحدثنا عن علاقته الأليفة بالموت الذي يرافقه. ألقى تحية الصباح على شاب يشرب القهوة عند مدخل البناية، فردّ عليه بأحسن منها .. وبقنبلة.
www.ezzedinekalak.com | designed by: Hammam Yousef :: Copyright © 2017 - 2018