بقلم إدريس الخوري* | يصعد الموت الجاهلي الأسود درج العمارة، يدخـل بعنف ويقتنص عز الديــن، يخرّ الجسد الفلسطيني صريعا ويذهب الموت الجاهلي إلى البار.
من الصحراء يسافر الموت الجاهلي على متن طائرة تجارية ويحط رحاله في أورلي. يقدم جواز سفره العربي إلى الجمرك الفرنسي والبوليس الفرنسي ثمّ يستقل الطاكسي باتجاه الفندق، وعندما يستريح ينزع من جسمه المزغب والخشن صفة البداوة مؤقتا ويدخل في الحضارة.
ها هنا فلسطين وها هنا قتلها…
في الطـرف الآخـر من باريس، وفي أحـد الطوابق العليا ينكبّ عز الدين قلق على نفسه الحـزيـنة وعلى أوراق قضيته: لا حراسة بالباب، لأن الموت سيجيء من أكثر الأبواب هذه المرة، حـتى ولو كانت أكثر انغلاقا وحراسة، فكيف إن جاء من باب عزالدين المفتوح دوما على الرياح المتعاطفة ؟ مع ذلك فإن عزالدين كان يحدس جيدا أن الموت يتبعه أينما حلّ جسمه الهزيل حتى ولو كان في الحلم، أما في الشارع وفي المقهى والمطعم والسيارة والمترو، حيث ينفلت الجسم عن بعضه ليشم هواءً آخر، فإن الموت واضح، هكذا يربط عزالدين “علاقة جدلية” مع الموت! لقد أصبحنا صديقين حميمين.
أيهما أمَرْ الموت الصهيوني أم الموت العربي؟ تتمنى العائلة في دمشق أن يكون الموت صهيونيا لأن الموت العربي غير وارد على الإطلاق، لكن الموت العربي كان بالنيابة، فكان سبّاقا ً على التنفيذ.
ويستريح الموت الجاهلي في مقاهي ومطاعم باريس ويـرمق الفتيـات الجـميـلات المـارات فـوق الأرصفة وينفق على نفسه وعلى الآخرين بسخاء، وعزالدين يستدين من أجل ساندويتش ومن أجل صحيفة ومن أجل كتاب لمتابعة قضيته غير عابئ بالموت الذي يقتفي خطاه.
لقد أصبح الموت بالمرصاد لكن عزالدين يبتسم دائما.
في باريس كان عزالدين يحمل قضيته ويوزعها مجانا على الناس ، يتلقف المتعاطفون مع القضية أجزاء منها ويأكلونها صباح مساء في المقهى والسينما والمترو والطاكسي والبيت، ولا يهدأ عزالدين إلا إذا وزع جسده، فهذا الجسد النحيل سيتناسخ في أجساد أخرى، لقد ورث عزالدين جسد محمود الهمشري.
يصعد الموت الجاهلي درج العمارة، فيما عزالدين منكب على نفسه وعلى قضيته، لا حـراسـة في الباب لأن المـوت محتمل في باريس، يدخـل المـوت الجاهلي الأسود بعنف ويقتنص عز الديــن، يخرّ الجسد الفلسطيني صريعا ويذهب الموت الجاهلي إلى البار.
ها هنا باريس، ها هنا عزالدين، وفي دمشق تتمنى العائلة أن يكون موت ابنها صهيونيا. لكن الصهاينة فرحون لأن أحدا ما، خلـّصهم من عز الدين بالنيابة، هذا هو الزمن العربي الرديء!
(*)_إدريس الخوري ولد سنة 1939 بمدينة الدار البيضاء.عمل صحفياً بجريدة المحرر، ثم (بجريدة الاتحاد الاشتراكي) إلى أن تقاعد وانضم أيضاً إلى اتحاد كتاب المغرب في أكتوبر 1968. من الويكيبيديا
www.ezzedinekalak.com | designed by: Hammam Yousef :: Copyright © 2017 - 2018