بقلم شوقي بغدادي | حتى أنّ الأفكار لتذهب بي بعيدا فيما كان يصبح عليه عزالدين قلق لو استمر على عطائه كقصّاص، وأي إرث أدبي هام كان في الإمكان أن يتوفر بين أيدينا لو ألحّت عليه الهواية أكثر كي تصبح احترافا
ماتزال تحضرني ذكراه حتى اليوم …
الزمان، أواسط الخمسينات… والمكان زاوية في مقهى “الهافانا” بدمشق… والأشخاص مجموعة من الأصدقاء، أدباء ورفاق طريق، طامحين أن يسهموا حقا في تغيير العالم إلى أفضل…
نكون في ريعان زماننا، ونقاشنا، ثمّ يلوح عزالدين من خلف الزجاج، شابا نحيلا طويلا يـُـهَودج في مشيته على الرصيف، متأبطا زوّادته اليومية وعلامته الفارقة من الصحف والمجلات والكتب، نراه فينقطع الحديث الدائر كي تحلّ مكانه بهجة خفية غامرة،تعبـّر عنها جملة واحدة يقولها المكتشف الأوّل:
ــ إجا عزالدين …
ويرانا هو بالطبع فيبتسم عن بعد، كمن يدرك أننا نترقبه ونشير إليه وأنّ حضوره بيننا بهجة مؤكدة، وهاهو يدفع الباب الزجاجي ويدخل، وها نحن نتحرك قليلا كي نفسح له مكانا بيننا… وقد نسأله عن الصحة فيجيب بنكتة، أو عن أحوال البلد فيعلّق بنكتة،أو عمّا يحمله ويقرؤه و يكتبه فتظل إجاباته أبدا تلك الجملة القصيرة الساخرة، الضاحكة الحاسمة، التي تلخص مقالة عميقة لاذعة.
لم يكن عزالدين ابن جيلنا تماما فلقد كنّا نكبره بعشر أو ثماني سنوات على الأقل، إلاّ أننا لم نشعر في يوم من الأيام أنه مجرد فتى طالب جامعي يـُجالس أدباء معروفين .كان منذ تلك الأيام يبدو لنا أكبر من عمره،وأن موهبته كإنسان وكمثقف وكاتب مـُبدع طاقة أصيلة ناضجة تزرعه بيننا شجرة مُطمئنّة في مكانها، وارفة في عطائها، جامعة بين النكهتين الفلسطينية والشامية في مزيج لا ألطف منه ولا أحب…
ومنذ تلك الأيام كنّا نقرأ قصصه الأولى بنشوة من يـُدرك بعمق، أن موهبة متميزة متقدمة تعلن عن نفسها بتواضع جم، ولكن بثقة عميقة . ونقول في أنفسنا دون أن نـُفصح : هاهو جيل آخر رائع يرثُ تقاليد الواقعية التقدمية، ويبدأ منذ الآن بمساندتنا في حمل الراية كي يرفعها بعدنا أعلى فأعلى…
ولكن عزالدين يغيب فجأة وينقطع عن الكتابة، ثمّ يعود،ثمّ يختفي، ثمّ يختط لنفسه طريقا آخر للخلاص، وتأتينا أخباره أنه صار كذا وكذا فلا نستغرب، فلقد كان مهيئأ بالفطرة أن يلعب دورا متقدما في أي مجال يروده . وإذا كان لنا أن نأسف لشيء، فإنما لأنه طلّق ميدان الإبداع الأدبي كي يكرس حياته للنضال السياسي، الذي برع فيه كعادته، ولربما كان التفسير الأساسي لانقطاعه عن الكتابة أن عزالدين كان من النوع البشري الذي يسخّر كلّ طاقاته للعمل، الذي يهب له نفسه، حتى يكاد لايجد فسحة من وقت يـُكرّسها لحياة خاصة، أو هواية أخرى غير القضية التي نذر لها حياته، وأي قضية أروع من قضيته، قضية الثورة الفلسطينية.
وها أنذا بعد نيـّف وربع قرن من الزمن، أواجه عزالدين صديق الصبا ورفيق الطريق، قاصا موهوبا يحن إلى أيامه الأولى، فيجمع أوراقه القديمة وينشرها في أواخر السبعينات، في مجموعة يتيمة، كمن يعلن سلفا أنه يودّع الحياة، وأنه قبل رحيله الأخير،يودّ أن يجمع في حقيبة السفر كل متاعه، والقديم قبل الجديد، وما كان أفظعها وأروعها نبوءة أنه تهيأ للرحيل حقا وأنه رحل…
فما عساني أقول يا عز الدين في هذه القصص بعد هذه السنين، وأنا أواجهك من جديد تدفع عليّ باب بيتي، كما كنت تصنع في مقهى “الهافانا” قبل أكثر من ربع قرن، سوى أن أنهض كما كنا نصنع في الزمن الخالي حين نراك مـُقبلا، كي أفسح لك مكانا إلى جواري…
قد تكون هذه القصص بالنسبة لك كما قلت عنها حين دفعتها للنشر عام 1978 “تعبيرا لم يكتمل بعد،” إلاّ أنّ حياتك الرائعة، التي اكتملت بموتك الفاجع الرائع تجعل كل شيء يخصك رائعا …
ولا أقول هذا الكلام مدفوعا بحماسة الوفاء والإكبار بقدر ما أنا مدفوع بنشوة القراءة لأدب يحمل كل خصائص الجمال الفني شكلا ومضمونا. وقد يكون ثمـّة مايـُقال في نقد هذه القصص هنا وهناك.
ولكن أيّ أدب آخر حتى المشهور منه لايخضع لمثل هذا النقد في مثل الشروط الصعبة المختلطة، التي تهيمن على حياتنا منذ سنين . وها نحن بعد كل هذه السنوات الحافلة، هل استطعنا حقا أن ندفع إلى المطابع إنتاجا أدبيا أفضل بكثير من هذه الباكورة الجميلة، التي بدأ بها عزالدين حياته كقصاص موهوب متمكن.
كان بودي أن أجعل من هذه المقدمة دراسة نقدية مُعمّقة، ولكن المجال ليس مجالها، كما أن عزالدين لم يعد بحاجة لها بقدر حاجته أن يكون مقروءا فحسب، ذلك أنّ نداوة ماكتبه ماتزال، بعد كل سنوات عطائنا المتطورة الحافلة، حاملة جدارتها وقادرة أن تُمتع وتُعلّم…
لقد كان عز الدين قلق القصاص شبه الوحيد في طرافته المتميزة ككاتب تقدمي يشق طريقا بَكرا لا للقصة الفلسطينية فحسب، وإنما للقصة العربية الواقعية التقدمية، التي تحمل في حناياها وبمهارة ملحوظة كل نكهة البيئة والثورة الكامنة، سواء في قصصه الشامية الخالصة،أو في قصص المشردين الفلسطينيين وسواء في قصصه ذات المحتوى الطبقي الصارخ، مثل قصة “يوم في مرفأ أبي هاني” أو في قصصه ذات المحتوى الإنساني الخالص كما في قصته “الأمل الآخر.”
إن تقنية عز الدين الأساسية كانت تقوم على هذه المقدرة العجيبة على استخدام السرد العادي المُطعّم بالمونولوجات والحوار الواقعي الحي كأداة متميزة عن السرد المألوف في القصص التقليدية.
إنه يبدأ قصة هكذا مباشرة وببساطة خالصة، مُقدّما إنسانا فردا أو مجموعة بشرية في وضع اجتماعي أو سياسي أو عسكري معيّن، ولكن دون أن تفهم من هو الشخص تماما، ولا أين تقع الأحداث ولا كيف.. ثمّة حكاية حقا تروى، ولكنها تبدو دائما رواية غير مقصودة تماما أو بتعبير أدق غير موجهة في الأصل كحكاية من كاتب إلى قارىء، وإنما هي أشبه ماتكون بنوع من الذكريات المتداعية في شريط خاص ذاتي بالكاتب وحده والذي يُفرّق وحده مايجري، ولكن حديثه عنها يصل إلينا بالصدفة. ومن هنا يبدو المكان والزمان والأحداث والشخصيات غامضة ولكنها حيّة ساخنة، ولا تتوضح معالم الأشياء إلاّ بالصدفة خلال السرد المتناهي نفسه، وما هي صدفة بالتأكيد، وإنما هي التقنية الذكية الماهرة، التي تقصد سلفا وبكثير من الذكاء والمهارة أن تجعل القصة شيئا شبيها بالمناجاة الداخلية وما هي كذلك، ومن هنا ينبع التشويق الخاص، الذي يميز هذه القصص جميعها بالرغم من خلوها أحيانا مما يسمى بالحديث المتنامي والذروة العقدة والخاتمة الأخيرة، إنه التشويق الذي ينبع من طبيعة السرد نفسه، القائم على الاستفادة إلى أقصى حد من المونولوج الداخلي، والوصف الدقيق الواقعي، والسرد الساذج البسيط، والنّفـَسْ المحلي، والمضمون الإنساني في مزيج متوازن يجعل من بعض القصص فعلا نموذجا يـُحتذى للقصة الحديثة المنشودة في إطار الواقعية مثل قصص “اللقاء” و”الأمل الآخر” و”نداء الأرض” و”يوم في مرفأ أبي هاني”… وقد تكون بعض القصص الأخرى مجرد لقطات مؤثرة عابرة، مُنتزعة من حياة الشارع الدمشقي، ولكن فن الأقصوصة يبقى بين يدي عزالدين متماسكا طريفا مُشوّقا حتى في أبعد قصصه عن الثورة والثوار مثل “بردة في ليلة باردة.”
في قصص عز الدين تمسك بكل ما هو شامي عريق وفلسطيني جارح، وبكل ماهو إنساني، مفتوح إلى أكثر خلجات النفس البشرية رفاهة وشفافية وتأثيرا، في أسلوب حار، بسيط،ساخر حينا، فاجع حينا آخر، ولكنه أصيل باستمرار، حتى أنّ الأفكار لتذهب بي بعيدا فيما كان يصبح عليه عزالدين قلق لو استمر على عطائه كقصّاص، وأي إرث أدبي هام كان في الإمكان أن يتوفر بين أيدينا لو ألحّت عليه الهواية أكثر كي تصبح احترافا.
ولكن ماذا تعني كل هذه الأمنية، مادام عز الدين قد استطاع عمليا أن يقدم حياته نفسها قصة لا أروع من سموّها ونبلها كي تلهمنا نحن الأحياء – أدباء وقرّاء – أعمق من أيّ تراث أدبي مكتوب.
ياله من لقاء يا عز الدين- ياصديقي بعد فراق هذه السنين الطويلة، بين انسان اختصر الطريق إلى المجد والخلود وإنسان آخر مايزال يتردد على الطريق ذاتها. أنت شهيد بلا تمثال كما هم أبطال قصصك، أمّا نحن فلسنا سوى تماثيل بلا شهادة… فما أروع الأدب حينما تصبح الكلمة سلوكا.
اللهم ألهمنا أن نجعل سلوكنا مثل الكلمات، التي تخطها للناس … ويا أبا العز ليس ثمة أحد أفضل منك كي يعطينا هذه القدوة … فإلى لقاء قريب …
دمشق 17/1/1980
www.ezzedinekalak.com | designed by: Hammam Yousef :: Copyright © 2017 - 2018