بقلم كلود لازار | لم يسبق لي أن التقيت برجل سياسي له هذا القدر من الاهتمام بالثقافة كعز الدين القلق، لقد عرف كيف يفهمها وكيف يسخرها لخدمة قضيته، كان يقول إن على الفلسطينيين إثبات أن لهم ثقافة غنية وتراثا طويلا لم ينقطع، وهو جزء من التراث الثقافي التقدمي في العالم.
اللقاءات الأولى التي جمعتني بعز الدين قلق، هي التي حددت نوعية العلاقة بيننا فيما بعد، لقد اكتشفنا بسرعة من خلال الثقة المتبادلة، مجمـوعة قواسم مشتركة شكلت حجر الأساس لعلاقة متنامية، قـُطِعت بعنف في يوم مأساوي، هو الثالث من شهر آب عام 1978
في حزيران عام 1975، كنت أعرض أربع لوحات في مهرجان سياسي نظـّمه تجمع الفنانين المعادين للفاشية. وتشاء الصدف أن تـُعرض لوحاتي الأربع في الركن المخصص لفلسطين. هنا قدّم لي عزالدين القلق نفسه، وأبدى دهشته وفرحه لاكتشاف عملي هذا، ثمّ نظر إلى لوحاتي طويلا، مستفسرا وغير متردد في إبداء الملاحظات على إحداها. فقد وجد أنها غير ملائمة، إذ كانت تمثل مـُصارع ثيران، تعلوه الأعلام الإسرائيلية والأمريكية.
وفي المساء، وأثناء تناولنا طعام العشاء سويا، سألني عمُا إذا كنت قد وضعت لوحاتي في مكان أمين خلال الليل، ولمّا أجبته بالنفي، ذهل من إهمالي، لقد كان مُحقاً. إذ فقدت في اليوم التالي اثنتين من لوحاتي. وأنا أعتقد أنّ هذه الخسارة أحزنته أكثر مما أحزنتني.
في تلك الفترة كنت سكرتيرا عاما في صالة الرسامين الشباب، أطلعته على رغبتي في تأسيس تجمع للفنانين من أجل فلسطين، فأبدى تأييدا وحماسة، ويمكنني القول أنه ماكان لهذا التجمع أن يتحقق من دون مساهمته. فقد جاءنا بالقروض، وشجّعنا على هذه المبادرة، وسهّل لنا نشاطاتنا عبر إمدادنا بكل ما يلزم. وأسدى إلينا النـُصح مع احترامه للبحث الشخصي. ولم يتردد في توجيه النقد إلى التصوير المبتذل والمكرر. كما كان صارما بالنسبة للمضمون السياسي لأي عمل. وأذكر على سبيل المثال أنه قد طلب مني إعداد ملصق بعنوان “الصهيونية شكل من أشكال العنصرية” فرسمت فيه نجمة داوود محاطة بالأسلاك الشائكة، أشار عز الدين إلى أنّ هذا الغموض سيساء تفسيره، فقد كان ضد استخدام الرمز الديني من أجل محاربة الصهيونية، إنه يُفضّل الموضوعات، التي تُظهرمستقبل البناء أو الثقافة أو الأرض الفلسطينية على الرسوم العدوانية.
أمّا بالنسبة إلى علاقاته بالفنانين العرب، فقد كان يحثهم على القيام بأبحاث من أجل استخدام أفضل للخط العربي، إنه يمثل كما يقول، التعبير الخاص بثقافتنا.
كان يهتم بالملصقات اهتماما خاصا،مشيرا إلى أن الثورة الفلسطينية قد أنتجت ملصقات أكثر من أيّ ثورة أخرى في العالم،وأن عائلات الشهداء وأصدقائهم، يصرون على طبع صورة الشهيد ولصقها في كل شوارع قريته أو مخيمه.
منذ وصوله إلى فرنسا كان عزالدين يجمع معظم الملصقات،التي تطرح القضية الفلسطينية، فقد كان يريد طبعها في كتاب،وفي ساعات راحته القليلة، كان يبحث عن تاريخ الملصقات.ويمضي في دراسة تقنيات الطباعة.لم يهمل معرضا، لم يكن يريد الإكتفاء بتصنيف الملصقات زمنيا، أو كتابة تاريخ فلسطين من خلالها، بل كان يفكر في تحليلها بعمق، وتصنيفها تبعاً للمدارس المُختلفة.
كيف أمكن لهذا الرجل، المهدد دائما والمـُثقل بالأعمال اليومية، أن يجد الوقت الكافي للبحث في الأسواق القديمة وفي الدكاكين، عن أثر خطي يـُصوّر قضيته،هكذا اقتنى مجموعة ضخمة من البطاقات البريدية، ابتداءا من أوّل القرن. لقد مثـّلت إثباتا لا يقبل الجدل لوجود الشعب الفلسطيني على أرضه، كما شكلت برهانا آخر على كذب الأسطورة القائلة أنّ فلسطين كانت صحراء قبل العام 1948. كان عزالدين يعمل جاهدا لتنسيق هذه البطاقات في ملفاته، آملا ً أن تصبح جزءاً من متحف فلسطين.
لقد ناقشنا مطولا احتمالات تحقيق هذا المتحف، والشكل، الذي يمكن أن يتخذه،مستفيدين من تجربة متحف سلفادور الليندي.
وفي نيسان 1978، أخذت هذه المبادرة شكلها الواضح في بيروت، وقد ساهم عزالدين في هذا العمل، داعيا إلى اجتماع حضرته مجموعة من الرسامين، كما كلـّفني بمساعدة منى السعودي في تجميع اللوحات، وأرسل ملخصا عن مشروع المعرض إلى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، مضيفا إليه اقتراحاته.
كما جهّز ملفا خاصا بالفن التشكيلي، جمع فيه جميع الوثائق المرتبطة بالقضية الفلسطينية، قصاصات الصحف، بطاقات الفنانين، جداول، رسائل الخ..
وكان يريد أن ينظم حفل استقبال، يشكر فيه الفنانين المقيمين في فرنسا، الذين ساهموا في المعرض الدولي من أجل فلسطين. غير أنّ قاتليه لم يمهلوه لإنجاز هذا العمل ومشاريع أخرى* مثل فيلم قصير عن الرسم الفلسطيني والثورة، ولهذا الغرض طلب من أصدقائه السينمائيين تصوير مجموعة كبيرة من اللوحات.
لم يسبق لي أن التقيت برجل سياسي له هذا القدر من الاهتمام بالثقافة كعز الدين القلق، لقد عرف كيف يفهمها وكيف يسخرها لخدمة قضيته، كان يقول إن على الفلسطينيين إثبات أن لهم ثقافة غنية وتراثا طويلا لم ينقطع، وهو جزء من التراث الثقافي التقدمي في العالم.
إنّ هذا المناضل، الذي قام بعمله السياسي والدبلوماسي حتى النهاية، ودون خضوع، عرف كيف يضيف وجها جديدا للمقاتل.
* كان يأمل في وضع عمل جماعي، يشترك فيه رسام ومهندس معلوماتي، يكون أول ملصق سياسي بواسطة الكمبيوتر.
www.ezzedinekalak.com | designed by: Hammam Yousef :: Copyright © 2017 - 2018