بقلم فايز ملص | ولأن الحصار عاد الآن إلى وطنه أشد ضراوة وأثخن موتا، فإن حضورك بيننا في هذه الأيام من آب، يخفف وطأة إحباطنا ويحفزنا إلى مزيد من الغيرة على دم أهل ستبقى في ذاكرتهم
اليوم ، وقد أغلق صدام ملف أبو نضال بالطريقة التي اعتاد أن يغلق بها كل ملفاته المربكة، يحق لروح الشهيد عزالدين قلق أن تتنفس الصعداء ، لا شماتة بمصرع قاتله، فالشماتة لـم تكن مــن خصاله، وإنما اطمئنانا إلى وجود عدالة ما في هذا الزمن المجنون، الكثير الاحتفاء بالجريمة والمجرمين.
اغتيل عزالدين فــي مكتبه بباريس ذات نهار ساخن مـن آب (أغسطس) 1978، كان قبل رحيله بأكثر من عامين يعرف أنه سيُقتل ويعرف مــن سيكون قاتله، فأشباح الموت التي بثها صبري البنا حوله (بالتعاون مع مخابرات معلـّمه آنئذ) لم تكن تتركه يرتاح لحظة واحدة. كانت تطارده فــــــــي حركاته وسكناته. هذا عدا عن أنه تلقى فــي الأسبوع الذي سبق اغتياله معلومات متواترة تؤكد ورود اسمه على رأس لائحة الإعدام، التي أصدرها القاتل المحترف: سفير عربي شهم اتصل به قبل وقوع الجريمة بأيام ليعلمه بذلك،كما أنّ الكاتب والصحفي الفلسطيني نبيل خوري صاحب مجلة المستقبل آنذاك، طلب إليه أن يذهب فورا إلى المطار ولو بدون حقيبة لأنه الأول فـــــي لائحة تضم عددا من المناضلين الفلسطينيين والعرب المهدّدين، وكان من بينهم صديقه وصديقنا الكاتب المصري المرحوم لطف الله سليمان. أضف إلى ذلك أن شابا عراقيا صادفني فــــي أحد المطاعم الصغيرة قبل اغتيال عز الدين بأيام معدودة وطلب أن نتحدث على انفراد.
قال: أعرف أنك صديقه وأعـرف مدى وطنية هذا الرجل وإخلاصه، لكنهم يتهمونه بالتفاوض مع العدو، وقد قرروا قتله، وأنا لاأستطيع أن أتركهم يرتكبون هذه الجريمة. أرجوك أن تخبره بذلك. أرجوك!
كان صبري البنا عضوا في حزب البعث، وبعد انشقاقه عن فتح استمرأ اللعب على حبل الصراع بين القيادتين القومية والقطرية على شرعية الحزب: يتعشى فــي دمشق وينام فــي بغداد، مقدما خدماته الإجرامية للفريقين دون تمييز، مادام يحصل منهما على مايكفيه من المال لتحقيق مشروعه الخـاص: تحرير فلسطين عبر تصفية القيادات الآخذة في فتح آفاق للتعامل مع القضية، بعد أن أغلقت موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية إلى أجل غير مسمى كل طرق النضال المسلح.
بطبيعة الحال، نصح أصدقاء كثيرون عزّ بأن يبتعد لفترة عن باريس، أن يبقى في الظل بعض الوقت، ريثما ينقشع الخطر. لكن عزّ، المناضل الصلب والعنيد حتى المكابرة، المدجج بالكبرياء حتى تخوم الانتحار… عزّ الوفي لأرضه ولأمه وأبيه الطيبيين، لـم يكـن ليفرّ أمام مخاطر المهنة، لـم يكـن ليتخلى عن مسؤولياته في اللحظة العصيبة (وكل لحظات فلسطين عصيبة).
هل ننسى أنه كان فـــــــــي مطلع شبابه بين الدفعة الأخيرة من المساجين الشيوعيين، الذين أطلق سراحهم أيام عبدالحميد السراج، حجّاج تلك الأيام مع أنه لم يكن حتى مجرد عضو في الحزب الشيوعي؟
عز، مازلت في ذاكرتنا، بل أنت أحياناً معنا، تزورنا فجأة في لحظات اليأس ودمار الروح، مثلما زرت ذاكرة صديقك محمود درويش في بيروت أواخر أيام حصارها. ولأن الحصار عاد الآن إلى وطنه أشد ضراوة وأثخن موتا، فإن حضورك بيننا في هذه الأيام من آب، يخفف وطأة إحباطنا ويحفزنا إلى مزيد من الغيرة على دم أهل ستبقى في ذاكرتهم، التي لاتنسى مهما بلغت بها الحاجة إلى النسيان.
www.ezzedinekalak.com | designed by: Hammam Yousef :: Copyright © 2017 - 2018