موقع الشهيد عز الدين قلق

لانبكي عز الدين القلق

بقلم نصرالدين البحرة* | أليس مفجعا أن يكون موت عزالدين أشبه بقنبلة دخانية، يختفي وراءها وجه القاتل؟ إننـا لا نبـكـي صديقنا عز الدين قلق. فنحن نبكي أنفسنا، نبكي جيلنا الذي قـُدّر له أن يـدفـع الضرائب جميعا. نبكي ذلك الجرح العميق في جسد أمتنا العظيمة. إننا لا نبكي صديقنا عز الدين قلق .. بل نبكي عالم الكيمياء والدكتور الذي خسرته أمتنا.

حينما طفرت الدموع من عيوننا، لم نكن نبكي تماما عز الدين قلق.. صديقنا القديم ، الذي مزّقت أحشاءه شظايا القنابل، واستقرّت في جسده ست عشرة رصاصة آثمة.. ذلك أننا كنا نبكــي جيلا بأكمله، ليس هو الجيل الأول فحسب من أبناء فلسطين، الذين ترعرعوا خارج أرضهم…. بل هو جيل كامل، من أبناء الأمة العربية. وليس صحيحا على الإطـلاق أن أبناء فلسطين وحدهم هم الذيـــن يشكلون جيل النكبة، فنحن جميعا ننتمي إلى هذا الجيل… وكلّ منّا منكوب على نحو ما.. وإن تكن نكبة فلسطين، الكارثة.. هي القاسم المشترك بيننا كافة.

كنّا في الصف الثاني الإعدادي عام 1947- 1948 عندما نشب القتال في فلسطين، وكان المفروض -ونحن فتيان صغار- أن ننصرف عن ذلك إلى لعبة نمارسها مع أقراننا وأبناء حينا، إلاّ أننا اتجهنا إلى مركز التطوع، الذي افتتح يومذاك في مدرستنا ثانوية ابن خلدون، مكان اتحاد العمال فــي دمشق الآن فقــُبل الكبار سنا منّا.. وصُرف الصغار. وأخذ أولئك الفتيان طريقهم بين المتطوعين نحو فلسطين . وما أزال أذكر جيدا أنّ بعضهم ذهب ولم يعد .. وأمّا الذين كـُتب لهم أن يرجعوا فقد استقبلناهم وكأنهم عائدون مـــــن أعراس البطولة.

بلى، لئن كانت نكبة فلسطين نقطة انعطاف حادة في تاريخ الأمة العربية ، فإنها كانـت فـي الآن ذاته ، نقطة البدء أيضا بالنسبة إلى جيلنا… ومن ذا يستطيع القول، أن قلوب هذا الجيل، عرفت حقا معنى هناءة العيش، وهدوء البال واللذاذات التي يعيشها الشبان في كل مكان من العالم ؟

إن عز الدين قلق هو واحد من القلائل،الذين يعكسون أبرز صفات هذا الجيل.. فقد كان يدرس في الوقـت الـذي كان عليـه أن يستريح فيـه. وكان يعـمل في الوقت الذي كان ينبغي أن يلهو فيـه.. وكان النضال بالنسبة إليه خبز يومه وملحه ونبيذه .. وكان يجـد، على الرغم من ذلك كله ، متسعا كـي يبتسم ويضحك.. ويـُضحك الآخرين…

بنفسي أذكر ذلك الجسد الأسمر الناحل ، أذكره وهو ينحدر على درج السجن في الخمسينات المتأخرة، حاملا ً على ظهره ذلك البرميل الضخم.. وكانت تلك مهمة يومية إجبارية على السجناء أدّاها عزالدين، وكان يرفض دائما أن يتطوع سواه عنه لأدائها. وكان عز الدين يلقى دائما ما يحمله على ظهره وكاهله… كان يبحث عما تنكب الآخرون عنه، ليحمله بجسده و روحه مسافات طويلة.. عبر حدود الزمان والمكان..

ولقد أبدى باستمرار استعدادا مذهلا للدفاع عن قناعاته ، بالغٌ مابلغَ الثمن . ولم تكــن بذاتها لتعني عنده الشيء الكثير . كان المهم عنده أن يكون صادقا مع نفسه، وفيا لفكره وقناعاته. وهكذا أمضى في البدء سنين طويلة في السجن.. ودفع حياته ثمنا في النهاية.. ألم يكن عز الدين يعلم حق العلم، أن هناك من يتربص به.. ويريد قتله؟ ألم يعلن هو نفسه ذلك أكثر من مرة ، فهل جعله ذلك يغـيّر شيئا فــي مسيرته اليومية، أو يبدّل شيئا من موقفه وقناعاته؟! أفلا يحق لنا هنا لأن نحـزن بصورة خـاصة، لأنــه قـُتل بأيد.. يقال: أنها أيد عربية؟! أوليس أمراً في منتهى الفظاعة والقسوة والمرارة، أن يُقتل عز الديـن لأن قتلته، يبحثون فقط عن حادثة، قصة، يلهون بها الآخرين؟!

أليس مفجعا أن يكون موت عزالدين أشبه بقنبلة دخانية ، يختفي وراءها وجه القاتل؟

إننـا لا نبـكـي صديقنا عز الدين قلق. فنحن نبكي أنفسنا، نبكي جيلنا الذي قـُدّر له أن يـدفـع الضرائب جميعا. نبكي ذلك الجرح العميق في جسد أمتنا العظيمة.

إننا لا نبكي صديقنا عز الدين قلق.. بل نبكي عالم الكيمياء والدكتور الذي خسرته أمتنا.

نبكي الأديب القاص والناقد.. الذي رحل عنا.. وكان عز الدين قاصا، كتب القصة القصيرة يوم كان طالبا في جامعة دمشق. وكتب المقالة والدراسة.. وكان ممثلا، يبكي ويضحك.. وعلى الرغم من أنه لم يكن يحب البكاء في حياته اطلاقا، فلقد أبكانا كثيرا..

لقـد دهشت وأنا أتصفح العـدد من مجلة “شؤون فلسطينية” إذ وجدت دراسة أكاديميــة تسجيلية عن السينما الفلسطينية كتبها عز الدين قبل أن يموت. وليس شاهدنا هنا، أنه وجد فــــي زحمة الموت المحدق به، وقتا ً يكتب فيــــه بروان ٍ عن السينما الفلسطينية.. بل شاهدُنا أنه كان يبحث دائما عمّا يمكن أن يخدم به قضية وطنه.

صحيح أن عزالدين كان متعددا.. لكنه في جميع الأحوال كان واحدا مفردا.. نرجـو أن يتكرر .. فذلك أفضل تكريم لذكراه..

المصدر: صحيفة تشرين – صفحة 28 تحت عنوان أدب وفن – التاريخ:

(*)_كـاتب سوري – يرجى مراجعة موقع الويكيبيديا على الرابط

إقرأ أيضا

Leave a Comment