موقع الشهيد عز الدين قلق

القاتل الذي لايقتل

بقلم د.حسام الخطيب* | كانت خسارة عـزالدين القلق مذهلـة، ولكن ماهـو أكثر صدعا للنفس ، التعليق الـذي رافـق الخـبـر ومفاده أن أربع محـاولات اسرائيلية سابقـة أخـفـقت فــي النيل منه ، وأن محاولة ذوي القربى هي التي نجحت أخيراً

انتهى الدكتور أفنان القاسم من كتابة روايته ” النقيض ” فــي 12/ 1 / 1972 كما يشير التاريخ المثبت في آخر الرواية ، وقام المستشرق الفرنسي اندريه ميكل ، الذي يحظى بحب جميع طلاب الأدب العربي في باريس ،بترجمة الرواية إلى الفرنسية وهي بعد مخطوطة ــ كما تشير المقدمة .

وفي الاسبوع الأول من آب سنة 1978 كنت أقرأ هذه المخطوطة بتكليف من اتحاد الكتاب العرب ، وأعيش جو الغربة الفلسطينية في باريس، حيث تدور أحداثها . وكنت أنجزت ثلثها أو مايقارب ذلك حين فاجأني المذياع ــ كما فاجأ ملايين الناس مـن عـرب وغيـر عـرب ــ بالنبأ الصاعق حـول اغتيــال الدكتور عزالدين القلق ، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية فــي باريس . وماتلا ذلك من توجيه تبعة القتل إلى جهاز تابـع لدولـة عربيـة معينة . كانت خسارة عـزالدين القلق مذهلـة ، ولكن ماهـو أكثر صدعا للنفس ، التعليق الـذي رافـق الخـبـر ومفاده أن أربع محـاولات اسرائيلية سابقـة أخـفـقت فــي النيل منه ، وأن محاولة ذوي القربى هي التي نجحت أخيرا ً .

ومضيت فــي القراءة بحماسة أكثر . وكنت أتـصور عـزالدين في سطـور التجـربة المـرة لرواية ” النقيض ” . وأخذت أقارن بينه وبين الفلسطيني التائه كما ترسمه هـذه الرواية . وأخيرا ً وجـدته بلحـمه ودمه .

” واخبروك ياأمي أن أخي مات بعد أن أسالوا دمه نهرا ً يلطم مجدهم ! وكان جوابك أن الموت نجمة للفـَخار ، والجرح وسام ! وأبت دموعك إلاّ أن تنفجر خصبة كينابيع الجبل ، بعد أن تشق دربا في الصخر وتجعل …ملح الأرض عذب المذاق .

بكيت بحرقة ، لا لأنك أعطيته للريح ، ولكن لأن عمـّه قاتله ! وهذه هــي المرة الألف التـي يقف فيها معك وجـها ً لوجـه ، وفـــي كل مرة يبدل عصاً بعصا ، وسلاحا ً بسلاح ، ونصلا ً بنصل ، ليـجعلك أخرى ، وأنت أخرى ، تعبدين التراب ، وهو عبد ذليل لسيده . تواجهين الصعاب وهو وجه دموي لحقده ، يضن عليـك ، ليغدقوا عليـه ، ويـُحـكم الأغلال حـول يـديـك ، ليطلقوا يـديـه . ولن يجـعلك أخـرى ، لأنك والوطن شيئان هما كلٌ واحدٌ لايتبدل ! فليجعل الوطن غير الوطن إذا استطاع ، وما استطاع لفظة َ الوطن كما يلفظه فمك الجائع . نعم ياأمي ، ” فلنقتل القاتل ! ” .

” هكذا صاح القتيل . وظنـوا أنهـم أخذوه عنوة ، وأنت من أعطيته للريح ، وصار الموت نجمة ! وعندما ناديت خف ّ أخي الآخر الذي يصغره عاما ً إليك ، أخذته وأخذك من يديك ، ومسح لك دمعك ، ثم صاح تماما ً كالديـك الـمـؤذن بالفجـر . فرشقتك بعض الاشعة ، وقـطرات النـدى العذبة . وإذا لم يـدم ذلك كثيرا ً فلأن عمي رماه في السجن أيضا ً ، وأسال الجلادون دمه ، فلم يمت ، ولم يفقد وعيه ” …

بمثل هذا يختلج خـواطر الفلسطيني التائـه … وههنا الوجه الآخر للعمل غيـر المفهوم . إنـه وجـه مطموس ذاغت كتابته وامحت . أن يكون هناك تناقض بين اليهودي الصهيوني والعربي الفلسطيني فذلك أمر ممكن الحدوث ، وذلك مايمكن قبوله واقعيا ً والتصدي له وإزالته عن طريق مناضلة الآخر ومحاربته والصمود لمكائده وأخيرا إزالته ، ولو جزئيا على الأقل …

أما الشيء الـذي لايـُفهم ولايـُفل ولايـُعالـج ، أمـّا الـذي لايؤخذ بعقل بل بعاطفـة وأسى ، أما الـذي لايـُحلل ولا يـُعلل وإنما يـُندب ويـُبكي ويـُرفض فهوأن يقوم فـــي ظهر العربي الفلسطيني الواقف فـــــــي مـواجـهة نقيـضه اليهـودي الصهيوني ، هذا التناقض اللئيم اللعين ذو الأحـرف والمعالم المطموسة ، الذي ليس له دواء سوى تحمل أسياخ النار اللاذعة في قفا التناقض الأصلي ،حتى تخبو هذه النار من تلقاء ذاتها أو يكف الذي هو في ظهره عن أن يتلقاها ، أي عن أن يكون .

المصدر : صحيفة الثورة 27 / 8 / 1978 .


(*)_باحث وناقد كبير، ولد عام 1932 في مدينة طبريا، فلسطين.

إقرأ أيضا

Leave a Comment