موقع الشهيد عز الدين قلق

الاغتيال

بقلم ناديا خوست*| موت عز الدين قلق، اغتيال فـي الساحة العربية. يضيّق أمكنتنا، ويصغـّر مواقعنا. سكين حادة تقطع علاقتنا بالزهر والفضاء. تخنقنا، وتهزمنا. نسقط في عتمة كثيفة، وأين القعر، أين؟ تختفي أقمار العالم. نضع أيدينا على عيوننا، ونغيب.

عندما يغمض إنسان عزيز عليك عينيه، وتعي أنه لم يعـُد جسدا تحبه وتخاصمه، تتمنى أن يركض العمر لتنتهي أيام الدموع والتجلد، لن تستمر حـياتك كما كانت، مهما تخيلت ذلك، فقد حَـفـرْتها وأخفيتَ فيها جرحاً تعرف مكانه، أنت وحدك، ولكن هذا الحزن شخصي ليس هزيمة.

هناك موت آخر، تصيح أمامه، مهما كنت حزينا: برافو! ينزل المتفرجون عن أرصفتهم إلى الهموم العامة. يقرب الحلم. يمدّ حياة جماعية عريضة عبر التضاريس والعصور، تتشابه فيها قدرة الإنسان على الحب والتمسك بالحق. علامة يصل الشهداء بها الناس بالناس، ويجعلون التردد والسكون بعدها مستحيلا.

أنعش الاستشهاد في الأرض المحتلة حق الأحياء فيها. شدّت ظهورنا صبايا غزة ونابلس،و شباب القدس. وجدنا في أيامهم علاقتنا بلون السماء، تذكرنا الورد، وميزنا القمر. اتسعت الحياة فظهر فيها زنبق الجبال وصحو الفجر، وأول يوم ثلج ناصع. تأكد أنّ جدول الجبل الصافي يسير بين الصخور، وأنّ النقاء والقدرة على الحياة لأجـل الوطن وعلى المـوت لأجله، موجودة. لم تشرّد الواقعية اليومية المرة شاعرية التمرد. وبدت خسارة الحـياة نفسها قـمة الـوعي. إيمان شاب وظـّف المـوت فـي مكانه و زمنه. جعله رشة ماء وردٍ. نفخة في النار الأبدية المقدسة: مقاومة الإنسان الظلم.

موت عز الدين قلق، اغتيال فـي الساحة العربية. يضيّق أمكنتنا، ويصغـّر مواقعنا. سكين حادة تقطع علاقتنا بالزهر والفضاء. تخنقنا، وتهزمنا. نسقط في عتمة كثيفة، وأين القعر، أين؟ تختفي أقمار العالم. نضع أيدينا على عيوننا، ونغيب.

شاب متوقد كرس نفسه لقضية حرية شعبه. واستطاع أن يخدمها. كان حبه الوطن والأرض والعدالة حارا وعاقلا. وكانت بلغة متقنة، ومنطق مركز عاقل. امتاز بأهم خصلة في الثوري: أن يكون “محبوبا.” لذلك كان عـز الديـن هدفا من أهداف المخـابرات الإسرائيليـة. وصلتـه كثيــر مـن الرسائل الملغومة، ورسائل التهديد. كان حذرا، يقظا. وأفاده ذلك في مواجهة العدو، لكن لم يفده في مواجهة الاخوة.

كان عزالدين يعرف أن من يدافع عن شعبه بمثل ذلك الإصرار، يضع حياته في يد الموت، وأن من يصل إلى القمة التي تبدو فيها الحـياة ساحرة، خضراء، شاسعة، يكون أقرب إلى الأحياء إلى الموت. لكنه عندما كان يدافع عن حـياته، كان يدافع عن حق شعبه في الحياة. وعن رجـولة من يرفع قضية. لا لأنه يستبعد ذلك الموت.

قـديم هذا الحكم على الفلسطيني بالفناء، قِدَمَ أول احتلال وأول مجـزرة. لكنه يتأجج كلما تحول الفلسطينيون إلى وجود سياسي، فدائي، وكلما تأكد وجههم مشرقا، متعلما، محبا، واضح الهدف. إن هذا الوجـود لايجعل المغتصبين يطمئنون، إن احتلالهم يرسخ إبادة هذا الوجود، بل وحتى إبادة براعمه واقتلاع الناس من أرضهم و ردّهم عن أن يكونوا طرفا في كل حل في الشرق الأوسط، بل وتصفيتهم الجسدية، ومنعهم حتى من المرور بالأحلام.

في الوسط هذا الوجـود، وحوله كل الرماة، وبينهم وياللعار، من يحـمل هويتنا، نمضغ ظلمة هذه الأيام، ونختنق بالخجـل. وصلت الخلافات حتى الجريمة، وأصبح التناقض الأساسي خـارج جبهتي العدوان والمقاومة.

ينهمر الرصاص علينا. كأنما الحكـم أن نكون أغنياء وكثرة إلى هذا الحـد، وعاجزين أن تكون بطولاتنا في قتل الإخوة، لا فـي مقاومة الأعداء، نحل المشكلات بيننا بالسلاح، ونحـلّ الخـلاف الرئيسي مع الأعداء بالهجوم في الإذاعات.

نتمنى لو كان الزمان مكاناً يمكن الخروج منه. ثمّ نتذكر أن عزالدين كان بين اللاجئين في صورتهم الأولى. عاش معنا، وأكل خبزنا، وافترش ترابنا. لم يكن الزمن الذي نما وانتصب فيه زمنا مضيئاً. ومع ذلك أصبح الرجـل، الـذي يجـلب الحـب والتضامن إلى قضيته. ومن كل زمن معتـم آخـر يمكن أن يخرج البديل المتألق.

صحيفة تشرين 10 / 8 /1978

(*)_ كاتبة وأديبة سورية ولدت في دمشق عام 1935، وهي شركسية سورية. حصلت على درجة الدكتوراة في الأدب المقارن من الاتحاد السوفييتي بعد حصولها على بكالوريوس الفلسفة من جامعة دمشق. كانت أطروحتها لرسالة الدكتوراة في الأدب المقارن بعنوان (أدب تشيخوف وأثره على الأدب العربي). تعمل موظفة مسؤولة مع لجنة الحفاظ على المدينة القديمة في دمشق والتي تهدف للمحافظة على طابع التراث المعماري والفني التاريخي في أحياء دمشق وبيوتها القديمة.

إقرأ أيضا

Leave a Comment