بقلم حسيب كيالي* | أغلب التمثيليات كانت من تأليف عزالدين وإخراجه وتلقينه، حوّلت حيويته الدافقة واستبشاره، ومرحه مصباح السقف الشحيح الموهون إلى “أضواء المسرح.” كنا نضحك في كثير مـن الأمسيات حتى نتعزى. ولكننا في أمسيات أخرى نشاهد مسرحا سياسيا حقيقيا، بقدر ماتسمح لنا إمكاناتنا وبطانياتنا وأمزجة سجانينا!
هيّا افسحوا لهم مكاناً ليرقدوا إلى جوار اخوتهم،
عندئذٍ لنحييّهم في صمت يليق بالموتى
سلام عليكم في رقدتكم، يامن قُتلتم في سبيل بلادكم
وأنتِ أيتها الحفرة المقدسة التي دَفَنت كل أفراحي
ويا أيها الخدر، خدر الفضيلة والنبل،
كم استودعتك من أبنائي،
أبنائي الذين لن تردهم إليّ مرة أخرى.
اقترن مجيء رمضان في خاطري بذكريات عذاب أكثرها لاتخلو من مرارة ، ولكن الذاكرة مع الزمن لا تُبقي حتى من المرير إلا على جانبه المُبهج، الشجي، وهذا الشجو مرده إلى أنه ليس لنا كرة على هذه الفانية، وأن الشباب لن يعود ابدا ، ولذلك لن يتاح لنا أن نخلو به لنخبره بما فعل المشيب.
ولكن رمضان المشحون بكل هذه العواطف الرقيقة ذات الفرحة الحزينة والحزن الجذلان يجيء هذا العام حاملا معه خبرا من أسوأ الأخبار وقعا على قلبي. أقصد استشهاد صديق كريم يعود عهد معرفتي به إلى قبل أكثر من عشرين سنة .
هو المرحوم عز الدين قلق ممثل “فتح” في باريس.
قبل أكثر من عشرين سنة كان عدد من الشبان الطلاب ( أخالهم كانوا في السنوات الأخيرة من الثانوي أو الصفوف الأولى من الجامعة) يؤلفون ندوة أدبية لاهي مرخصٌ لها وليست معروفة ،وأمّا مقرّها، فلم يكـن لهـا مقر ثابت لأنـها تجتمع عنـد أكبـر الأعضـاء صوفة، مــرة فــي الأسبوع. ولا تقتصر تلك الاجتماعات علـــى الأعضاء وإنما توجــّه دعوات إلــى كتّاب وشعراء أكبـر سنا ً يحـاضـرون أو يكتفون بالاستماع إلى المُستجدين. هاتيك الدعوات كان ينظمها، أكثر من كِبَرِ السن، انتماء سياسي وفكري، ليس ضروريا أن يكون حزبيا.
بعد سنوات قلائل وجدنا أنفسنا وإياهم فــــي الحبس، ومثلما كان المـرحـوم عز الديـن المحـرّك الرئيسي للندوة الأدبية الطلابية الصغيرة، كما لاحظ كل من حضر حتى اجتماعا واحدا مـن اجتماعاتها، انقلب المجـتمع الـذي ضمنا إلـى ندوة أوسع، حجة النشاط ، طافحة بضروب النقاش والتعلم والتعليم كان عز الدين هنا أيضا روحها العذب وفرحتها وعزاءها. وكان سجننا غريبا بعض الشيء، لأن أكـثـرنا كـان يجهل، حتى ولو كان راسخا في العلم، لماذا أدخلنا غيابته. وقد خطر لنا، في لحظة من اللحظات أننا لم ندخل إلا لأننا خارجه. كانت شواغلنا لا تتيح لنا الكثير مـــــن اللقيا فأرادوا للقيانا أن تطول بعض الشيء.
كان أكبر الكبار سنا ً لما يتجاوز الأربعين، وأما من كان من جيل عز الدين فكثير منهم لم يبلغوا العشرين. وكان بداهة أن نملّ ونضجر ونضيق ذرعا ً بمكان لانحـبّ حـتى أن نتثائب فيـــه، لأن هواءه لم يكن طلقا ً جدا ً. وليس عندك فيه شاغل من أي نوع، ونحن فــــــي سن السورة العرمة ، والفوران. فكيف نسمر في اللا-عمل، ندق في أيدينا وأرجلنا.
من يومئذ دخل عزالدين في قلبي ، وظلّ ممن لايُنسون مهما نتباعد ويشط مزارنا . ذلك أن ذهنه تفتق عن إنشاء مسرح ليس له غير جدارين. وأمّا ستارته فبطانية مهترئة، كانت تكلفنا عسرا كبيرا حتى لا تنزلق إذا تحمس أحد الممثلين في الإلقاء.
أغلب التمثيليات كانت من تأليف عزالدين وإخراجه وتلقينه، حوّلت حيويته الدافقة واستبشاره، ومرحه مصباح السقف الشحيح الموهون إلى “أضواء المسرح.” كنا نضحك في كثير مــــن الأمسيات حتى نتعزى، ولكننا في أمسيات أخرى نشاهد مسرحا سياسيا حقيقيا، بقدر ماتسمح لنا إمكاناتنا وبطانياتنا وأمزجة سجانينا!
منذ تلك الأيام كانت الخطوط الكبرى لشخصية الراحل قد انحفرت بعمق وظهرت بقوة. صحيح أن ذلك الفتى النحيل، طـالب الجـامعة، كـان موهوبا، خفيف الظل. وتعلمون أن أكـثـر الناس قابلية للشجار هم الأصدقاء، يسجنون معا، ومع ذلك ماسمعنا أن عز الدين ، طوال مدة توقيفنا معا، قـد تخانق مع أحد. كان دائما مزّاحا، واسع الإبتسامة، فيه طفولة عذبة، إنه غفور أبداً.
ولكن الموهبة والسجايا الكريمة الأخـرى ، والخلائق المصفاة والشغوف الندي كماء المزن، ليست وحدها التي أبدعت هذا الإنسان في خير صورة المناضل والفنان (وبهذه الصفة كنت أتنبأ له، ولكن كل فنان فلسطيني هو فلسطيني أولا!) وكوّنت شخصيته المتميزة حتى وهو يافع. ولكن ما لعب الدور الرئيسي في تعميق مناقب عزالدين وتفجير مواهبه ومزاياه إنما هو شتات شعبه، نفيه وتضوره حنينا لأرض وطنه الأم.
عزالدين وعى الخروج مـــــن أرض الآباء والأجداد، وعرف الأرتال، التي تغيب في الأفق، هائمة على وجوهها وإذ أُفهمت بالمذابح وهدم البيوت، أن كونها قادرة منذ اليوم على أن تمد شرشا لها في أيما مكان تحت الشمس قد انتهى.
هذا هو شعب يحكم بالشتات، لافي عهد نبوخذ نصر، ولكن في عهد حقوق الإنسان وهيئة الأمم، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية فــــــــي لاهاي. ومن هو الطارد لشعبنا “بقيادة” هذه الهيئات وبركتها؟ الطارد فلول زعمت أنها كانت فـــــي شتات، وهي لم تكن كذلك، لأنها لبثت ألفي سنة تعيش كالعلق على دماء المحرومين – الغوييم الفقراء – وها هي تنفيهم!
عزالدين وعى كل هذه السخرية السوداء، التي انطلت على الكثير من البسطاء، هذه السخرية، التي انطوى عليها قيام دولة اسرائيل وما يزال. عزالدين وعى أي ظلم دموي وحشي شتّام للعقل والمنطق وأبسط العدالة: حق الإنسان في أن يتنفس، أي ظلم قد وقع وأي عدل قد رفع منذ صرنا في المنافي.
لقاؤنا الأخير، قبل بضعة أشهر، كان مدهشا: عزالدين ظلّ هذا الإنسان، كالطفل المدهوش، الذي يجعل في قلوب الناس المسرّة. لم يقل أنه وقف حياته على فضح تلك المهزلة السوداء وهتك الأقنعة عن صانعي ذلك الظلم المهين للإنسانية كلها والراضين به… لم يقله لأنه كان يفعله.
أمن أجل هذا قتلوه ؟
(*)_ولد حسيب الكيالي عام 1921 في إدلب في سوريا. توفي عام 1993
www.ezzedinekalak.com | designed by: Hammam Yousef :: Copyright © 2017 - 2018