موقع الشهيد عز الدين قلق

عن عزالدين قلق وعن الملصق الفلسطيني

بقلم فايز ملص* | وفـــي آخـر كل نهار … كنت أرى فتى نحيلا وعبوسا عنيد النظرة، يحمل “مكنسة” وينظف الردهــة مــن بقايــا الأوراق وأعقاب السجــائر… إنه الدكتور عــزالدين قلق، رئيس الاتحـاد العام لطلبة فلسطين في فرنسا وعضو حركة فتح …

عن عزالدين قلق وعن الملصق الفلسطيني

التقيت بعز عند أكثر من محطة على طريق منفاه الأخير …

دمشق عام 1960: جهاد قلق تأتيني كل اسبوع بحلقة جديدة من” رسائل إلى قطتي “. ركنها الصغير في صفحتنا الجامعية بجريدة ” الأيام ” …

عام بأكمله وأنا أنشرهذه الرسائل  الطافحة حنانا وحزنا، دون أن يخالجني الشك لحظة واحدة في كونها مراسلة حقيقية مع أخ معتقل في *سجن المزة، في ضاحية دمشق منذ قرابة السنتين.

خريف عام 1961: عند بوابة الجامعة السورية الكبيرة، يستوقفنـي الصديق سامــي ليقدم إليّ زميله في كلية العلوم،الخارج لتوه من السجن. وأشدّ علـى يــد عزالديــن قلق وعيناي مغرورقتان، هــذا الإنسان المتواضع والفخور معا،  أنفق ثلاث سنوات من عمره لكي لايوقع اسمه تحت جملة صغيرة .

خريف 1970: دار المغرب في المدينة الجامعية بباريس، عز مرّة أخرى … كان الزمن زمن أيلـول الأسود … وكنا نعمل ليــل نهـار فـــي” لجنة ” المبادرة للدفــاع عـن الثورة وعـن شعب فلسطيــن، كـان الاتحــاد الوطنــي لطـلبــة المغـرب ومديـــر الـدار فرانسوا دي لاسودا،  قـد وضعـا تحـت تـصرف “فلسطين ” صالات الدار وغرفها، التــي تحــولت إلــى ورشة لإنتـاج النشرات والكـراريس وتجـــمـيــع الأدويـة وإرسال الوفود إلى المحافظات والأحياء العمالية … وعقد الإجتماعات التعبوية …

وفـــي آخـر كل نهار … كنت أرى فتى نحيلا وعبوسا عنيد النظرة، يحمل ” مكنسة ” وينظف الردهــة مــن بقايــا الأوراق وأعقاب السجــائر … إنه الدكتور عــزالدين قلق، رئيس الاتحـاد العام لطلبة فلسطين في فرنسا وعضو حركة فتح …

ومـرّت الأيــام وتـتـابعت الأحداث بسرعة وعنف وأصبح عـزالدين ممثلا لمنـظمــة التحــرير الفلسطينية ووجها ” دبلوماسيا ” وإعلاميا مرموقا في العاصمة الفرنسية … لكنه بقي يكنّس مكتبـه بنـفسه ويذهب صباح كل أحد إلى سوق شعبية في ضاحية ” كلينيانكور ” للبحث عن بطاقات بريدية .

هذا عن عز …

ــ خلال السنـوات الأخيـرة، لازم عـز هاجـس الإغتيـال، فالصحـف اليمينية الفرنسيـة تنشـر صوره وتبـرزه ـ رأسا ” للإرهاب ” الفلسطيـني في فـرنسا.  وبـعض الغلاة في الثورية اللفظية ، يضعون اسمه في ” قوائـم المـوت “، التـي يعـدّونها ” لتحـرير فلسطين ” ! … هـذا في الوقت الذي تحاول أجهزة المخابرات الاسرائيلية اغتياله مرتين ويطارده عملاؤها حيثما حل أو رحل .

وكان عز يتعايش مع هذا الخطر اليومي الماثل ويكاد يتقبله … كان يرى مصرعه الوشيك عند منعطف كل شارع فيتجنبه مدركا أنه سيلتقيه عند المنعطف التالي …

هل كان يستخف بالحياة إذن ؟

أبدا ً. فذلك الرجـل كان يحب الحـياة حـبا لاحـد لـه، ويكـره المـوت بكل أشكاله : الظلم والفـقـر والنفي وفقدان الحرية والكرامة والوطن … كان يعــي أهميــة الحـياة وعـظمتها … ولكنـه كمناضل صلب الإرادة، كان ” يُقننُ ” حياته … وأحيانا ” يؤجلها ” … يتقشف ويقسو على نفسه، وكلما اعترض صديق،  أجاب بالعبارة إياها : ” شعبنا في المخيم لايسكن أفضل من هذه الغرفة ” !

ــ خريف 1979: مرّ أكثر من عام على اغتيال عز … ولكنه مازال حيا ً بيننا . ومازال يتلقى انتقادات أصدقائه وعتابهم ليرد عليها بابتسامة صاخبة : ” يجب البحث عن مخرج …فلنشكل لجنة ! ” .

أمّا عن الملصق الفلسطيني فإليكم القصة

 

جمع الشهيد مواد هذا الكتاب طوال ثلاث سنوات مـن الجهد الـدؤوب. تضم مجموعته الراهنة ماينوف على الخمسمائة ملصق، صدر معـظمها في مختلف بلدان ” الشتات ” الفلسطيني وبـعضها داخـل الوطن المحتل … وكان عز يعتزم إعداد كتاب عن الملصق وتنظيم متحف له. وقد عمل في هذا المشروع بجدية كبيرة فقرأ الكتب المتخصصة، وحاور الفنانين، واتصل بناشريـن، ودوّن فــي دفـترين كـل الملاحظات والمعلومات التي حصل عليها .

إلا ّ أنّ عـز استشهد قـبـل أن يضع مسودة ” كـتـابه، تاركا لمجموعـة من أصدقائه وأصدقاء الثورة الفلسطينية مهمة إتمام ماقد بدأه …

وبالفعل، التأمت فـي الأسابيع التالية لاغتياله ” لجنة ” عفوية، شارك فــي أعمالها كــل مـــن يُسرقلق، نيكول فينا، كلود لازار، سمير سلامة، ليلى فرهود،  فايز ملص. وقــد استـفادت اللجـنة فــي عملها من دراستين جامعيتين حول الملصق الفلسطيني، أعدّت إحداهما ليلى فـرهود وأعـدّ الثـانية الشاذلي اللومي .

تولـّت ” اللجنة ” المذكورة، فرز ملصقات المجموعة وتصنيفها وتصوير مالم يصوّر بعد منها وإعداد المخطط العام للكتاب …

وقـد اعتمدنا في ترتيب مـواد الكتاب تصنيفا بحسب المواضيع الأساسية، مع مراعـاة التسلسل الزمنـي للأحـداث، كلمـا أمكـن ذلـك. وارتأينا أن نـقدم للكتاب بهذه الملاحظات، التي التقطناها من دفاتر عزالدين حول الملصق الفلسطيني وتاريخه ورموزه ووظيفته …

الملصق أداة أساسيـة مـن أدوات الإعلام الثـوري،  عبره تـدخل ” القضية ” بيوت الجماهير وتسكن عيونهم، وبفضل الطاقة الإيحائية لنصوصه ورسومه يذوب جليـد التحفظ والتـردد عند المتحفظين والمترددين … وتتم عملية ” تعبئة ” بطيئة،  ولكنها جيدة ” لاحتياطي ” الأنصار والأصدقاء …

– متى بدأ الملصق الفلسطيني؟  بدأ مع بدايـة الجـرح الفلسطيني: ساير جـموع النازحـين حـتى منافيهم، وشيّـع قـوافـل الشهـداء… ثـم مـع الإنطلاقة أخـذ يـرسم ملامح الفدائي المتسلل عبـر حـدود وطنه . والشهيد العائد إلى تراب الوطن… ثم التنظيم الفدائي الناشىء… ثم المعارك والبطولات… ثم الثورة على طريق النصر.

– كان الملصق الأول مجرد نعي للشهيد: ثم تطور فأصبح بلاغا عسكريا ينعي الشهيد ويعاهده على متابعة المعركة ويعرض صورته ونبذة عن حياته …

– يمكن اعتبار مجـلة ” الثورة الفلسطينية ” التي ظهرت في دمشق أولا، ثم انتـقـلت إلى عمّان بعد حرب حزيران/يوليو 1967، الإطار الذي نمت من خلاله فكرة الملصق الفني التشكيلي كأداة إعلامية وتعبوية مستقلة. فعلى غلاف” الثورة الفلسطينية ” وداخل صفحاتها ظهرت ” الملصقات ” الأولــــــــى للفنان السوري نذير نبعة والفلسطيني مصطفى الحلاج … ثم اتسعت الحلقة لتضم كل من الفنانين اسماعيل شموط وشفيق رضوان وعبد القادر ارناؤوط وسواهم …

بانتقال مركز ثقل الثورة إلى الاردن ازدادت أهمية الملصق الفلسطيني، نظرا لتواجد الثورة داخل جماهيرها الفلسطينية من جهة، ولانغلاق وسائل الاعلام الاخرى في وجهها من جهة ثانية  (كانـت الصحافة والإذاعة بيد النظام ) .

مـن عـوامل انتشار المـلـصق بسرعة فــي الاردن ” التنافس ” بين التنظيمات الفدائية الناشئة علـى اجتذاب الأنصار والمتطوعين، وكان هذا ” التنافس ” من الحدة بحيث كان اسم التنظيم يظهر أحيانا في الملصق بحروف أكبر من شعاره السياسي.

ابتداءاً من  ” الحقبة الاردنية ”  أخـذ نـوعـان متميـزان من الملصقـات يـبـرزان، كل ٍ منهما يخاطب جمهورا محددا: النوع الأول تقليدي قوامه صورة الشهيد وعدد من الرموز الوطنية والروحية، وهو معدّ لمخاطبة جماهير المخيمات والأوساط الشعبية الفلسطينية ــ الاردنية …  والثاني يركز علــــــــى الشعارات السياسية للمنظمات، ويخاطب على وجه الخصوص الطلبة والمثقفين …

بقي الملصق بعد ” الخروج ” من الاردن محتفظا بسمته الاساسية، التي لازمته منذ ظهوره : إنه فعل معارضة وتحريض، وهو على الرغم من حدثيته، وخـصوصياته الاخـرى، يحمل إلى الجمهور شحنة نضالية تتعدى حدود ” القضية ” لتشمل كل أشكال الاضطهاد الإنساني في كل مكان .

يشير عز في أوراقه إلى ” حرب الملصقات ” التي شهدتها بعض العواصم العربية في أوائل السبعينات بين منظمات المقاومة الفلسطينية و” منظفي الجدران ” . حيث كان الملصق يعلق بعد منتصف الليل على جدران المدينة … ليختفي منها قبل السابعة من صباح اليوم التالي .

لعب الملصق دورا هاما في التوعية الإجتماعية للجماهير , فقد واكب نشوء قطاعات الثورة الاجتماعية وتطورها تحت تأثير الكفاح المسلح … كما ساهم في النهضة النسائية الفلسطينية، التي رافقت نمو الثورة: ” في المـرحلة الأولى، يرينا الملصق المرأة كسند للرجل تـرعـى عـائلته، وسريـعا تتناقص الأيدي العاملة بسبب كثرة الشهداء فتأخذ المرأة بالعمل ( بنات الشهداء فـــــــي معامل صامد … فتيات تل الزعتر يجترحن البطولات لجلب الماء للمخيم المحاصر،  وتمرّض وتقاتل وتكتسب الـمـزيد مـن الحريات فتطالب بمزيد من الحقوق …”

فــــي لبنان حقق الملصق الفلسطيني قفزة نوعية كبرى من حيث الشكل والمضمون والكم، فعمل في إخراجه عشرات الفنانين الفلسطينيين والعرب والأجانب. وأصبح يُطبع بالألوان ويعتمد أحدث التقنيات التشكيلية في بنائه. ويُنتجُ بأعداد كبيرة ( وسطيا 2000 نسخة من كل ملصق ) .

هنا يوجه عزالدين بعض الانتقادات إلى هذه المرحلة ( اللبنانية ) ,يعيب عليها إفراطها في استخدام التقنيات وأساليب التعبير الغربية ونـدرة لجـوئها إلى الخـط العـربـي والـرسوم الشعبية ، إلاّ أنه سرعان مايستدرك فيلتمس لها العذر فــي هاجس التصدي للدعاية المضادة واستعارة لغتها فــي مخاطبة الجمهور ذاته ( الجمهور الأجنبي ).

لم تتبلور” مدرسة ” فنية فلسطينية عبـر هذه التجربة الاعلامية الكبيرة، وربما كان سبب ذلك، التشتت الجغرافي النسبي للفنانين،  وتنوع الساحـات المُخاطـَبة بالملصق وتباين التأثيرات الفلسفية والفنية، التي تلقاها منتجوه .

ثمة نوع مــن ” الملصقات بـدون ورق ” أو الملصقات  الفقيـرة “. ازدهرت فــي الاردن ولبنان علــى وجـه الخـصوص الكتابة على الجـدران للدعايـة للمنظمات وطرح شعارات الساعة. وهناك أيضا الملصقات الصغيـرة المقتصرة على شعار سياسي محدد. . ” لا للوصاية ” أو ” كـل السلـطـة للبنادق المقاتلة ” … الخ .

تطور المضمون الرمزي للملصق تطورا كبيرا خلال السنوات العشر الماضية : من الشعلة والبندقية والسنبلة إلى الجديلة وخارطة فلسطين والوان العلم والكوفية …

على الرغم من ضراوة الحرب وعدم تكافؤها بين الثورة الفلسطينية والكيان الصهيوني فإن أيـة شعارات عنصرية ( لاسامية ) لـم تظهـر خلال النشاط الاعلامي الفلسطيني .

ثمة أخيرا تطور تقني في الملصقات يلحظه الشهيد عزالدين: من لوحة اللون الواحد إلـــــى الألوان المتعددة. ومن النص المرفق بصورة شهيد إلــى الرسم الزيتي ( الحلاج وجمعية أصدقاء القدس ) والليتوغرافيا ( رضوان ) والرسوم المجردة والرمزية، إلى استخدام الصورة في بنية الملصق ( فوتومونتاج ــ الشهيد هاني جوهرية ) أوتوظيف الشعر والخط العربي في تشكيله .

وبعد . فـقـد أدى المـلصق الفلسطينــي ولايزال، مهمة أساسية في الاعلام الثوري. لقد حمل القضية إلـــى الوجدان العربي والعالمي،معركة إثر معركة، ،ونصرا إثر نصر،  ورسخــّها فــــي ذاكرة الشعوب تعبيرا عن إرادة الشعب،وهو يرفض الرضوخ لإرادة الطواغيت .


(*)_كاتب سوري  – المصدر:  ” الملصق الفلسطيني ، مجموعة الشهيد عزالدين القلق ” منشورات فجر 1979
الأسماء الواردة في النص :
ــ عزالدين القلق
ــ جهاد قلق : شقيقة عزالدين
ــ سامي
ــ الإتحاد الوطني لطلبة المغرب
ــ فرانسوا دي لاسودا
ــ ضاحية ” كلينيانكور “
ــ يسر قلق شقيقة عزالدين
ــ نيكول فينا
ــ كلود لازار
ــ سمير سلامة
ــ ليلى فرهود
ــ فايز ملص
ــ الشاذلي اللومي
ــ مجلة ” الثورة الفلسطينية “
ــ نذير نبعة
ــ مصطفى الحلاج
ــ اسماعيل شموط
ــ شفيق رضوان
ــ عبدالقادر ارناؤوط
ــ هاني جوهرية 

إقرأ أيضا

Leave a Comment