بقلم د.محمد برادة | وعرفتُ عز الدين قلق سنة 1977 ، في مؤتمر لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين عُقد في تونس، وحضرتُه آنذاك بصفتي رئيسا لاتحاد كُتاب المغرب . كان عز الدين متواضعا ، مثقفا ، له محاولات في كتابة القصة القصيرة
يحدث هذا، في غفلة أو سهْو مُستطاب، أن ننسى أو نتناسى العدد الكبير من المثقفين الذين قُتلوا ، في عهد الاستقلالات لا في فترة الكفاح ضد الاستعمار ، مستشهدين من أجل قضايا حرية الاعتقاد والرأي والديمقراطية، من أجل رفع الظلم وتشييد مجتمع المساواة الذي يعطي لمجموع الشعب أفقا للاستمرار والأمل . لكن هؤلاء المثقفين الذين يستحقون أن يُدرجوا ضمن هذه الخانة ، كانوا دوما هدفا لأجهزة القمع وسواطير القتلة ، سواء عند مواجهة الاستعمار أو في حوْمة الصراع الاجتماعي. هي مواجهة قديمة ومستمرة بين القتلة في وصفهم ممثلين لاتجاه وقُوى تتشبث بالسلطة والاستغلال ، وقوى تتطلع إلى التغيير والتحرر يقودها المثقفون المواكبون لوعي مجتمعاتهم …
تذكرتُ هذه البديهيات عند عرض مسرحيّ قُدّم خلال الموسم الثقافي الذي نظمته مُفوضية فلسطين في بلجيكا تحت اسم « مسارات » في السنة الماضية ، وكان العرض مُستوحي من شهادات عن اغتيال ثلاثة مثقفين فلسطينيين (الهمشري ، قلق ، نعيم خضر ) ، امتدّت إليهم يد القتلة أثناء ما كانوا يضطلعون بمسؤولية تعريف الرأي العالمي بقضية بلادهم ، والدفاع عن حقها في استعادة أرض الوطن، والتحرر من الاستعمار الإسرائيلي . لكن ما يستوقف النظر في حالة هؤلاء الشهداء الثلاثة ، هو أن اثنيْن منهما اغتالتهما المخابرات الإسرائيلية ، بينما عز الدين قلق مسؤول المنظمة في باريس، قتله طالب فلسطيني من أتباع أبو نضال الذي كان يتعاون آنذاك مع المخابرات العراقية في عهد صدّام… اختلفتْ دوافع الاغتيال ولكنها تلتقي عند هدف واحد : إزاحة مثقفين يخوضان معركة استقلال بلديهما بالنسبة لإسرائيل ، وتخويف من ينتقدون الأنظمة ويدافعون عن استقلالية القرار الفلسطيني بالنسبة للمخابرات البعثية ومأجوريها .
لقد قُدّر لي أن أتعرف على محمود الهمشري في سنة 1971 ، وعلي عز الدين قلق في 1977 بباريس، عندما كانا يمارسان مهامهما بروح نضالية نفتقدها اليوم حتى بين الفلسطينيين . عرفتُ الهمشري ذات صباح خلال إقامتي الدراسية لتحضير أطروحتي عن محمد مندور في جامعة السوربون، وأذكر أنني كنت في غرفتي بالحيّ الجامعي بعد العاشرة صباحا ، حين سمعتُ نقْرا على الباب وفتحتُ لأجدني أمام وجه مُدور، ممتلئ، مبتسم، وإطار نظارات لا يكاد يستقرّ على أرنبة الأنف . قدم لي نفسه وأضاف بأنه علم أنني مدعوّ إلى ندوة في إيطاليا سيحضرها مفكرون عرب وأجانب مرموقون ، وأنه يودّ لو أنتهز الفرصة لأشير في مداخلتي إلى القضية الفلسطينية واحتياجها إلى تضامن المفكرين الأوروبيين …كانت تلك بداية التعارف ، والتقيتُه بعد عودتي من ندوة إيطاليا وحدثته عن المحور الأساس الذي تناول « تيار الماركسية المنفتحة في مواجهة أسئلة ما بعد هبّة مايو 1968 » ، ثم رأيته مرة أو مرتيْن قبل أن تغتاله المخابرات الإسرائيلية .
وعرفتُ عز الدين قلق سنة 1977 ، في مؤتمر لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين عُقد في تونس، وحضرتُه آنذاك بصفتي رئيسا لاتحاد كُتاب المغرب . كان عز الدين متواضعا ، مثقفا ، له محاولات في كتابة القصة القصيرة (كتبها في 1956 ونشرها سنة 1978 بعنوان « شهداء بلا تماثيل»). وكان محبا للفنون التشكيلية والسينما، ونجح في أن يقيم صداقات وعلاقات واسعة مع نخبة من المثقفين والمناضلين الفرنسيين والعرب ، ونظم مهرجانات للتضامن مع القضية التي وهب حياته قربانا لها…
رحل إذن الهمشري وعز الدين اللذان عرفتهما عن قرب ، وارتبطت صورتهما عندي بنموذج المثقف المستنير الذي لا تقوده الشعارات الجوفاء ، وإنما يتابع التحولات ويبتكر طرائق ملائمة لتجديد النضال ، وتطوير خطاب التواصل مع الآخر… ومعهما رحل الكثيرون من المثقفين العرب بعد أن اغتالهم وكلاءُ القتلة ،إسرائيليون وعرب. رحلا ومعهما وائل زعيتر، وفرج فودة ، والمهدي بنبركة، وعطية الشافعي، وناجي العلي ، وعلولة ، وعمر بنجلون، وغسان كنفاني، وعشرات من المثقفين الآخرين الذين رحلوا قبل أن يكمّلوا المشوار ، لأن قُوّى الاحتلال والاستبداد تترصد بمَنْ يسعون إلى التغيير وينذرون أنفسهم لزرع بذور الأمل . كان القتَلة لهم بالمرصاد : القتَلة لا يراعون قانونا ولا شريعة ولا يملكون ضميرا . القتلَة يستلذون بشلالات الدم، وركام الجُثث والأشلاء،ومنظر البيوت المُهدمة . القتلة لا يطيقون مَنْ ينتقد تسلطهم واحتقارهم لحقوق الإنسان . القتلة عصابة تخدم سلالات السفاكين والحاقدين المستولين على السلطة من غير حق . القتلة قبائل وطوائف ندبتْ نفسها لإيقاف مجرى التاريخ نحو الأفضل . القتلة لا يؤمنون سوى بالعنف الذي يستديم سطوتهم وعروشهم وصولجان حكمهم مدى الحياة ، لهُم ولورثتهم الأقربين . القتلة يكرهون المثقفين أصحاب الرأي ، المؤمنين بجدلية الصراع والتغيير…
أما المثقفون الذين يستحقون هذه الصفة ، فهُم مَنْ يُذكون شعلة المقاومة ضدّ الاستعمار والاستبداد والعنصرية وبطريركية الرجل المزهوّ بذكورته ، إنهم يتسلحون بالمعرفة ويتوسلون بالممارسة والنقد ، وينصتون للتحولات التي تحبل بها مجتمعاتهم . المثقفون يراهنون على الصيغة المجتمعية التي تجعل المواطن يعيش ، فعلا ، كإنسان وفق قيم كرّستْها مسيرةُ الفكر والفنون والثورات ُ التي أرادت أن تصون للوجوه والنفوس كرامتها. والمثقفون العرب ، سواء الذين استشهدوا على أيدي القتلة ، أو مَن يتابعون الرصد والمناهضة ، هم الذين يُسطرون صفحات ناصعات، نضرات، في كتاب المعارضة الرافضة للاحتلال ولأنظمة لا تفكر في غير تأبيد سلطتها.
من هذه الزاوية ، أعتقد أن تاريخ المثقفين العرب لم يُكتب بعد ، ولذلك فهو نهْب للأحكام التعميمية الجائرة التي تُسارع عند كل أزمة ، إلي إلقاء اللوْم على المثقفين وكأنهم يملكون قوّى ضاربة تستطيع تغيير الأوضاع في رمشة عيْن ! بينما يقتضي الإنصاف أن نكتب تاريخ المثقفين العرب عبر مواقفهم ونضالاتهم وتضحياتهم في سبيل الحق والعدالة والديمقراطية . لنبدأ برَصْد وجوه مثقفينا منذ نهاية القرن التاسع عشر ، ولنُبرزْ ما اقترحوه من تغيير وتشييد، ولنُحللْ تلك التوجّهات مُقارنة مع ما فرضَه الطغاةُ والمستبدون منذ الاستقلالات الوطنية ، ولنبحثْ عن مسؤولية الانحراف والهزائم التي جعلتْ اليأس يرينُ على العقول والنفوس والإرادات … لنفتحْ ذاكرتنا لاستيعاب بطولات المثقفين العرب الذين جاهروا بالنُّصح ، وكتبوا دفاعا عن أفق الممانعة واللجوء إلى الديمقراطية ، واستشهدوا في سبيل مبادئ تُعلي من شأن شعوبهم … حينئذ ، سنجد أن استمرار مقاومة الاحتلال والاستبداد إنما يعود إلى الذين ينتمون إلى فصائل المثقفين المناهضين لقوى التسلط ، والذين هم دائما عُرضة لأسلحة القتَلة.
لا يمكن أن نحمل المثقفين مسؤولية التدهور وصعود الطغيان والأصولية، لأنهم لا يمتلكون قوة السلاح ، ولا يستطيعون أن ينوبوا عن الشعب وتنظيماته السياسية في إحداث التغيير المرجُو ، هم جزء من اتجاه ، وهم أيضا مختلفو التوجهات والمصالح، وهم ليسوا، في نهاية التحليل، ملائكة أو حالات بشرية ثابتة عند مثل أعلى لا يتغير . إن المثقفين يُشخصون الجدلية الاجتماعية المتحولة ، المتصارعة ، ولذلك قد يتعب بعضهم أو يستقيل من مهمته الرائدة ، لكن « خانة » المثقف في حوْمة الصراع والمجابهة تظل فاعلة ، ولاّدة ، متجددة ، مقاومة لعصابات القتلَة.
إن حيوات المثقفين المغدور بهم هي دوْما مصدر للتذكُّر والتأمل ، ومادة خامّ أيضا لإبداع الذاكرة عبْر أشكال جمالية لا تتوخى الوعظ ، بل تحريض الوجدان والوعي على حب القيم التي تعطي معنى لوجودنا داخل مجتمعاتنا العربية المُهددة ببطش القتلة وعنجهية المستبدين . واستعادة حيوات المثقفين الشهداء تحمل نفحات من عطر الأمل والتحدي ، وتُذكي في قلوب شباب اليوم شعلة الانتماء إلى قُوي التغيير للخروج من ليل عربي بهيم يزداد حلكة وظلاما.
www.ezzedinekalak.com | designed by: Hammam Yousef :: Copyright © 2017 - 2018