موقع الشهيد عز الدين قلق

دمه طلقة تحذير

بقلم رسمي أبوعلي | إنه ناد كبير، بل لعلـّه أكبر ناد في تاريخ هذه الثورة الفلسطينية ، ذلك أن هذا الطفل-الفتى- الرجل كان له براءة الطفولة وطبع النحل وصلابة الفولاذ.

ليس دمه دما.. وإنما طلقة تحذير فوق رؤوسنا جميعا.

ليس دمه دما.. وإنما مفترق طريق.

وتذكروا أنه سيأتي يوم نقول فيه : حدث هذا قبل استشهاد عز الدين.وحدث ذلك بعد استشهاده.

إنه ناد كبير، بل لعلـّه أكبر ناد في تاريخ هذه الثورة الفلسطينية ..

ولولا جلال الزعتـر لقلت إن دم عزالدين المُفـرد يتقدم على الـدم المتعدد. وهذا كله يشكل بعض العزاء. ذلك أنه لن يعود بوسعنا أن نرى بسمته المجدولة من طفولة وشعاع، ولا أن نتملى أسراب النحل الجـارية فـــــي شرايينه، وللأسف، لن يرتطم أعداؤه بعـد اليـوم بجداره الفولاذي، الـذي يشكـّل عمـقـه وقراره.

ذلك أن هذا الطفل – الفتى- الرجل كان له براءة الطفولة وطبع النحل وصلابة الفولاذ.

ولكم بعد ذلك أن تتأملوا رجلا، مانام ليلتين متتاليتين في مكان واحد على مدى سبع سنوات أو أكثر في باريس…

مبالغة في الحذر! – تقولون – ولم لا؟ كان يعرف – منذ استشهاد الهمشري – أن الصهاينة يريدون اصطياده ولم يكـن يريـد أن يمنحهم هذا الشرف، وقد نجح. ولكن انتبهوا! لم يكن حـذره قـط علـى حساب عمله الواسع العريض، كان في قلـب المطاردة يحاضر ويخطب ويناقش ويجتمع بالـرفاق والاصدقاء، ويحطم الكثير من الخرافات والأضاليل، التي وشمتها الصهيونية والكولونيالية في العقل الأوروبي عن القضية الفلسطينية والعربية.

وكان عز الدين – في العمق – متطرفا و راديكاليا، ولعل القلائل فقـط يعرفون أنه، وفي كل الحالات كان يؤثر العمل في صفوف العمال العرب والأجانب (من إسبان وأتراك ويوغسلافيين) الذين يعملون في المصانع الفرنسية – كان يدرك بحسه الثوري والطبقي أن هؤلاء هم الأصدقاء الحقيقيون للثورة ، وأنهم هم الرصيد الاستراتيجي، الذي لاينضب.

وكان مسكونا على الدوام بالحـركة وبالتوق الحارق إلى الإنجاز والإنتاج – وآخر مـرة كـان هنا في بيروت منذ شهرين تقريبا حدثني عن محاولاته الأولى في كتابة القصة القصيرة منذ خمسة عشر عاما، وأخبرني أنه بصدد إعادة النظر في هذه القصص لطبعها ونشرها، فلربما ساعده هذا على معاودة ممارسة هذا الفن (جميل أن يتولى الإعلام الموحد نشر هذه المجموعة رغم عيوب البدايات الأولى فيها تكريما له).

ليس دمه دما … وإنما طلقة تحذير
ليس دمه دما … وإنما مفترق طريق.

كان يريد أن يترك شيئا وراءه قبل أن.. أتراه كان يعرف؟ نعم كان يعرف.. كان يرى دمه يتقدمه وكان يتبعه.. وكان يريد أن يترك شيئا ماديا وراءه، إنجازا ثقافيا.

ــ لماذا ياعز.. إن عملك ونشاطك ليس بالشيء البسيط.. انك في الخندق الأمامي.
هكذا قلت له ذات مرّة ــ ولكنه رغـم إيمانه بعمله كان يعتقد أن العمل السياسي شيء قابل للتبخر- كان يريـد أن (يوثـّق) عمله بطريقة ما.. ولكن كان قد فات الأوان.

وكان متواضعا.

هل يبدو هذا تعداد لمناقب شهيد؟

كلا! ليس الأمر كذلك على نحو مجرد.

إنني أقصد أنه ما كان يأنف من القيام بأي عمل مهما بدا صغيرا إذا كان فيه خدمة للثورة.

وآخر مرّة.. (يا لآخر مرّة هذه) آخـر مرة كان في بيروت كان كثير التردد إلــى مؤسسة السينما الفلسطينية، وكان يتنقل محموما كعادته مـــن غرفة إلى أخرى وهو يحمل قصاصة صغيرة من الورق وأخيرا دخل إلى غرفة الطباعة وأخذ يطبع، وبعد أن انتهى جاء إلينا سعيدا فرحا وهو يقول:

ـ مارأيكم بهذه الفكرة؟ لقد ابتكرت نموذجا جديدا تستطيعون بواسطته معرفة عدد الذين يشاهدون أفلام المؤسسة!

ورآه أحد العاملين فـــي المؤسسة وهو داخل غرفة الطباعة -ولم يكن يعرفه- فنظر إليه ثم تساءل ببرادة:

– من هذا! هل هو موظف جديد في قسم الطباعة؟

وماذا أقول لك أيتها العزيزة يسر القلق؟ إنني أتوارى خجلا منك.. حتى جنازته لم أذهب إليها. خفت أن تقع عيناكِ عليّ، فترون في وجه الشؤم الذي حذرك قبل استشهاده بشهر، عندما رأيتك صدفة في دمشق ولم نتحدث إلاّ عنه..

نعم أيتها العزيزة، كنت أعرف بقلبي ولكن لم يكن بيدي حيلة.. ولكن عز نفسه كان يعرف أيضاً !!.

ولكن أنت أيضا كنت تعرفين.. وإلاّ فما الذي جعلك تأخذين إجازة مفاجئة قبل أيام من استشهاده وتطيرين إلى باريس؟! أكنت ذاهبة لرؤيته أم لوداعه؟
وها أنذا الآن كما ترين.. أرثي الأحبة وأدرّب قلبي على الصبر..

إنها لمهنة شاقة أرجوا ألاّ تطول.. أمّا قَتـَلته: فصدقيني أنهم لا يستحقون حتى مجرد الذكر..
حتى مجرد الذكر.

رسمي أبوعلي

المصدر : مجلة ” فلسطين الثورة ” 17/ 8 / 1978

إقرأ أيضا

Leave a Comment